التخطي إلى المحتوى الرئيسي

السودان.. الوطن المنكشف أمنياً

   مرّ السودان و خَبِر كل حالات الدولة (من الدولة الفاشلة، و الدولة المارقة، الي الدولة المفلسة - و هو المصطلح الذي حاز حق صكه علي محمود وزير المالية الانقاذي الاسبق)، قتل المراقبون تلك الحالات وصفاً و تحليلاً و تأويلاً..

لكن لم يحدثنا احدهم عن حالة الدولة المنكشفة، و نقصد بذلك الدولة التي تصبح مفتوحة علي سطوة مخابرات الدول الاخري، و تصبح مؤسساتها عبارة عن اقطاعيات و حوزات و مناطق نفوذ تتقاسمها الدول المجاورة و البعيدة بوضع اليد و بنفوذ عملاءها و جواسيسها من بني الوطن المنكشف و برعايا تلك الدول..

حالة الوطن المنكشف و رغم انها بلغت اعلي مستوياتها و مناسيبها في عهد البشير "النظام البائد" و بلغت حد ان يكون مدير مكتب الرئيس و هو برتبة "فريق أمن" جاسوساً لدولة "اجنبية"، إلا ان الحالة "الانكشاف" قديمة؛ تطورت مع تضعضع اقتصاد الدولة و مؤسساتها و تحديداً منذ مجاعة ١٩٨٤م و الحرب الاهلية التي تزامنت معها..

حالة الانكشاف الأمني و تحول اراضي الدولة الي ضيعة يرتع فيها الجواسيس داخل المباني الرسمية في طمأنينة و حرية عرفتها دول عديدة قبل السودان، و هي حالة تعقب حالات الحروب الاهلية و الانقسامات الاثنية و الجهوية و الدينية و المذهبية و "الطائفية" ..

 هذه العوامل تخلق حالة الضعف و من تلاشي المشاعر الوطنية و الانتماء و في ظل غياب مشروع وطني يعيد صياغة القيم الموحدة للأمة و الدولة و يعيد تسليط الضوء علي الارث القومي و الاسطورة التاريخية الإجتماعية الناظمة و المتماسكة، المشروع الوطني الذي يرسم الحدود القانونية و الدستورية و الاهداف السياسية و الأمنية، و يحدد الإطار الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي الذي يعبد طريق التقدم و الإزدهار و النهضة..

في ظل غياب ذلك المشروع الوطني يتحول الارث القومي المشترك الي "تركة" قومية، و يتحول ابناء الأمة الي "ورثة" متشاكسون يسعي بعضهم الي الاستحواز علي كامل التركة أو اكبر نصيب منها، و يسعي بعضهم الي التخارج، و يسعي بعضهم الي بيع انصبتهم بأي ثمن "و هم في زاهدين" فيما يتخلي الكثيرون عن نصيبهم طواعيةً و دون مقابل!

حالة الانقسام التي عقبت سقوط النظام "البائد" بين مكونات السلطة العامة الي (مكون عسكري و مكون مدني) تعوق التعامل مع حالة الانكشاف الوطني تلك..

امساك المكون العسكري بالملف الأمني و اقصاءه القوي الحزبية و المدنية الأخري من التعاطي مع هذا الملف يحول دون معالجة هذا الوضع!

فالوطن ليس حكراً علي العسكر الاقوياء و الساسة المدنيين، خصوصاً بعد ثورة باسلة أثبت فيها الشعب انه صاحب القول المبدئي و القول الفصل ... و الأمن القومي ليس مفهوم قاصر علي مكون دون آخر بل هو شأن دستوري شأن كل القضايا الكلية يتطلب أوسع توافق وطني ممكن.

كما ان الفترة الانتقالية الطويلة نسبياً تقتضي علي الأقل التوافق علي مفهوم "أمن قومي انتقالي" يضمن استقرار الوطن في هذه الحقبة المفصلية..

اعادة صياغة مفهوم جامع للأمن القومي السوداني بعد عقود التيه و الانكشاف مهمة عسيرة و في ذات الوقت لا تقبل التأجيل و التراخي، و علي العكس من ذلك تتطلب السرعة و الحسم لتدارك الوطن و مكوناته قبل ان تستفحل حالة الانكشاف و تقود لمزيد من التقسيم و مزيد من "الانفصال" وصولاً لمرحلة انهيار السلطة السياسية الضامّة و الضامنة و التي تعقب انهيار الاقتصاد و تفكك اوصال الفئات الوطنية.

القوي الحزبية اهملت ضمن ما اهمل مسألة الأمن القومي، و سلمت بفرضية انه شأن لا يخصها! و كيف لك ان تسعي لحكم دولة و انت لا تولي الامن القومي ادني اعتبار؟ الاحزاب اهملت ملفات الأمن القومي حتي كادت ان تصبح هي نفسها احد مهددات ذلك الأمن القومي، لأنها لا تراقبه في سلوك عضويتها و علاقاتها الخارجية!

اول مطلوبات نضج الاحزاب و اهليتها لتولي السلطة هو ان تضع ملف الامن القومي في المكان الذي يستحق علي جدول اولوياتها.  

فبراير ٢٠٢١م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم ت...

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بين...

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانته...