يونيو 2020م
ان عقدة الشركات في السودان لم تكن يوما بسبب القانون انما بسبب قصور في أهم جهاز يتولي انفاذه "المسجل التجاري العام لجمهورية السودان"..
في العام 1925م اجازت سلطة الاستعمار الانجليزي المصري في السودان ممثلة في الحاكم العام الانجليزي قانون للعمل التجاري والنشاط الاقتصادي يعتبر بكل المقاييس من القوانين المدنية المتقدمة والحديثة، ولأن السودان كان للتو خارج من قرونه الوسطي ومن حقبه المظلمة كان بمثابة مادة خام سهلة التشكيل، لم تكن ثمة عقبات وعراقيل تعوق سن تشريعات متطورة خصوصا في المجال المدني والتجاري.
كان الاداريين الانجليز يفخرون بالقانون الذي وضعوه و يزعمون انه متقدم حتي علي القوانين السارية في لندن عاصمة الامبراطورية نفسها والتي بسبب تشابك و قدم الانشطة والمعاملات لم تتمكن من تحديث قانون انجلترا التجاري الا في بصعوبة في 1968م.
اذا فالقانون التجاري السوداني 'الشركات والشراكات' بدأ من مركز متقدم جدا.
لكن تلك البداية لم نستفد منها فسرعان ما تعقد الوضع عندنا. بينما بقي ذلك القانون ساريا دون تعديل لقرابة القرن حتي تم تعديله في العام 2015م!!
فأين كمنت العلة؟ في القانون القديم نفسه؟ ام في تطبيقه وفي الاجهزة والاشخاص المنوط بهم السهر علي حسن انفاذه؟! و هل يقدم قانون 2015م حلولا لأزمة الشركات في السودان؟ ويوفر المناخ المطلوب لبيئة العمل التجاري والانشطة الاقتصادية؟!
فيما يخص اشكالات قانون الشركات القديم: ربما تكون مشكلة قانون 1925 الوحيدة هي حداثته و تتطوره نفسه، اذ ان تلك الحداثة لم يواكبها تجهيزات واعداد للجهات المختصة بانفاذه و الجهات المستفيدة منه 'الشركات التجارية' نفسها،
فأولا: تسبب القانون في انتشار ظاهرة الشركات الوهمية التي بلا مقر وبلا مساهمين حقيقيين وانما يكون لها مؤسس واحد والبقية مساهمين شكليين لتكملة الاجراءات، وظاهرة الشركات التي تتأسس لغرض بسيط و وحيد اي دخول لعطاء او مناقصة معينة لاغير!
ثانيا: تجربة شركات المساهمة العامة و شركات الدولة 'الشركات الحكومية' كانت اسوء من تجربة القطاع الخاص والقت بظلالها السالبة علي البيئة القانونية والسوق ايضا، لكن بسبب الحماية التي تحظي بها لم يوجه لها اي لوم او تخضع تجربتها للتقويم.
ثالثا: حتي الشركات التي لها وجود فعلي 'ليست علي الورق او وهمية او بغرض الاحتيال' كانت خصما علي الاقتصاد الذي لأجله اخترعت قواعد القانون التجاري؛ فالشخصية الاعتبارية والصفة التعاقبية مثلا والتي صممت لحماية حملة الاسهم من المطالبات في حالة استغراق الديون لاصول الشركة وضمان استقلال شخصية المؤسسة الاقتصادية عن اوجدوها واداروها.. يتم استغلالها من قبل شخص واحد يملك كل الاسهم عمليا وبالمقابل لا تخدم الشركة اية مصلحة عامة بل مصلحة 'المساهم الوحيد'، فيما ان كل القواعد كما سبق وضعت لخدمة الاقتصاد والسوق ابتداءا بتسهيلات لزيادة الانتاج ثم زيادة فرص العمل وصولا لزيادة الناتج القومي..
رابعا: كل الشركات تفتقر لدرجة العوز لتطبيق مفهوم حوكمة الشركات، فبالنسبة لها ماهو مطلوب قانونا وبموجب علم ادارة الأعمال الحديثة كله شكليات وحتي عندما تعقد مجالسها العمومية فانها تقوم اليها متكاسلة وتفعل ذلك كشكل بلا معني ولا قيمة.
ان تلك الاشكالات نتجت عن ضعف استعداد الجهات التي انيط بها تنفيذ وتطبيق و شرح وتفسير القانون 'من معاهد القانون الي المسجل التجاري و المحاكم.. الخ'..
١/ فالمسجل التجاري 'ادارة التسجيلات التجارية حسب المسمي الجديد' مكون بصورة كاملة من مستشاري وموظفي وزارة العدل فقط، وكأن المشرع او المنفذ يعتقد ان الشركة مؤسسة قانونية مع انها مؤسسة اقتصادية قبل ان تكون ذات وضع قانوني ويفترض في مثل هذه الادارات ان يراعي في تكوينها وجود ممثلين عن كل المصالح المعنية 'وزارة المالية، البنك المركزي، وزارة التجارة،وزارة العمل، الغرف الصناعية والتجارية واصحاب العمل..الخ'، لضمان توفير رؤية اقتصادية اشمل وايضا لتسريع اجراءات التسجيل وخلافه والتي اضحت من المعايير التي يقاس بها مؤشر بيئة اﻷعمال.
ان الصبغة القانونية البحتة للجهاز حاليا هي المتسبب في عقم وروتينية الاجراءات وعن نشوء الظواهر التي يحاول المسجل التجاري الأن محاربتها عبر حملات التفتيش 'الانتقامية' التي يشنها علي مقار الشركات، وهي حملات مرهقة وبلا طائل، اذ من الممكن تجنبها والتحايل عليها ببساطة شديدة بل من الممكن الوفاء بشروط المسجل دون ان يعني ذلك وجود شركة تعمل بالفعل وتسهم في الاقتصاد! ومن الافضل ان يتم الاستعاضة عنها باجراء بسيط يتم في مكتب التسجيلات ويضمن تحقق الاهداف التي من اجلها شرع القانون و وجدت الادارة نفسها 'المسجل التجاري'.
كما بقي جهاز المسجل التجاري علي حاله لنحو 90 عام دون تطوير يراعي المتغيرات كافة و ينبغي اعادة النظر في التقسيمات الادارية لجهاز المسجل التجاري وتحديدا ما يتعلق بالتوزيع الجغرافي لمكاتب المسجل علي الولايات والمدن ذات الأهمية التجارية والاقتصادية، فالافتراض السائد الان ان المسجل التجاري بالخرطوم هو المقر الرئيس في حين انه فرع جغرافي و اقليمي 'ولائي' لا فرق بينه وبين مكاتب للمسجل في عواصم الولايات، ويجب اعادة هيكلة الادارة لتستوعب البعد الفيدرالي 'الاتحادي' كنظام حاكم متبع ويراعي كذلك القواعد العملية في الادارة والحوكمة بحيث تتحقق افضل النتائج الاقتصادية التي من اجلها يتأسس السجل التجاري العام.
2/ لم تقم كليات دراسة القانون و الحقوق بواجبها في شرح و تحليل ودراسة تطبيقات قانون الشركات و لم تفرد له الحيز الذي يستحقه في دورياتها و ندواتها وسمناراتها 'وهي شحيحة في ذاتها!
و بما انه قانون تجاري/ يعني بالمجال الاقتصادي/ كان ولا يزال من الواجب لن يتم تدريسه في كليات الاقتصاد والادارة بصورة اكثر تركيزا كما يستحسن ان يدرس في كورسات مبسطة لطلاب الكليات الاخري لا سيما الهندسة والعلوم والاداب..
٣/ فيما يخص القضاء والمحاكم كانت قضايا الشركات والمنازعات التجارية من اختصاص المحاكم المدنية العامة المنتشرة لكن منذ العام 2005 تم انشاء محكمة تجارية عهد لها النظر في هذه القضايا ولكن هي محكمة وحيدة مقرها الخرطوم! ما يشير بقوة الي القرار انشاءها غير مدروس ولا يخدم للقانون التجاري 'الشركات' اية قضية و يضيف تعقيد وقيد جديد علي الانشطة التجارية و الإقتصادية، فاما ان يتم تأسيس محكمة تجارية في كل عواصم الولايات و كل المدن المهمة التي بها نشاط تجاري واقتصادي كبير او ان تعود سلطة النظر في قضايا الشركات والشراكات واسماء الاعمال لقضاة الدرجة العامة.
إذا تفعيل و تأهيل المسجل التجاري هو المدخل للافادة من ثمار قانون الشركات السوداني الذي بقي حبراً علي ورق لقرن كامل، فعلي سبيل المثال لا تزال شركات المساهمة العامة تعد علي اصابع اليدين و مساهمتها ضعيفة للغاية..
شركات المساهمة العامة لها ميزة ليست في كونها تملك رأسمال ضخم و قدرة تنافسية اكبر داخليا و خارجيا و قدرة اعلي علي خدمة سوق العمل عبر تشغيل مئات و آلاف الموظفين و العمال؛ نتيجة لتعدد مساهميها بل لأن فوائدها ايضا تعود و تتوزع علي طيف واسع (المساهمين)
و هي بالتالي تمثل مصلحة عامة و تنوب عن المجتمع بصورة أفضل مما تفعل الشركات الحكومية..
تجربة شركات المساهمة العامة في السودان ضعيفة جدا، و تحتاج لأن تعززها الدولة و تنشر ثقافتها،
من ذلك الا تتعامل الدولة في تعاقداتها و عطاءاتها الا مع شركات المساهمة العامة، و لا تمنح امتياز الا للشركات العامة.
شركات (توريد أو انتاج و توزيع الدقيق و الوقود و الدواء) إن لم تكن شركات مساهمة عامة فلا يجب أن تمنح امتيازات عامة لتوريد الوقود و توزيعه و توريد وتوزيع الدواء و توريد و توزيع الدقيق أو طحنه أو خلافه..
و في هذا السياق تحتاج الدولة لإعادة النظر في قانون الاوراق المالية، القانون الحالي مصمم لسوق وحيدة هي سوق الخرطوم للاوراق و يجب إلغاءه و ابداله بقانون شامل يستوعب قيام اسواق أخري متي ما دعت الحاجة و متي ما رغب الراغبون.
و قبل ذلك نحتاج الي إعادة النظر في قانون الشركات و بصورة مغايرة هذه المرة حتي نتمكن من توظيف الشركات التجارية لتصبح شريكا أصيلا في التنمية تساهم في زيادة الدخل و الناتج القومي و تسهم في تشغيل اعداد مقدرة من العمالة و ليست مجرد متكسب و منتفع من القانون التجاري السوداني فالقانون عندما قرر منح امتيازات للشركات (الشخصية الاعتبارية و الذمة القانونية و المالية المنفصلة للشركة عن ذمة مساهميها قرر ذلك لتقوم الشركات بعمل حقيقي و تسهم في الاقتصاد القومي لا أن يقوم سوق للاحتيال و الأنشطة الوهمية!)، و إعادة النظر المغايرة تقتضي مراجعة و تصحيح اختلالات جهاز المسجل التجاري العام اولاً..
تعليقات
إرسال تعليق