تعتبر ازمة المواصلات و التنقل داخل المدن احدي اعقد مشكلات المدن السودانية، و تظهر هذه العقدة في الخرطوم "العاصمة" بسبب الاكتظاظ السكاني و المساحات الشاسعة و المتباعدة لمناطق و محليات و احياء المدينة..
و رغم ان هذه الأزمة تفاقمت منذ ثمانينات القرن الماضي الا انها لم تجد أدني اهتمام من السلطات و كل الحلول التي اتبعت كانت حلول سطحية، فتفاقمت مثني و ثلاث و رباع و خماس... الخ
واقعيا تشتد الازمة مع كل انخفاض في سعر العملة الوطنية و ظهور فجوة بين سعر الوقود المحلي و سعره العالمي فينشط السوق الاسود و التهريب للبيع في دول الجوار.. الخ و تنخفض وتائر الازمة مع كل معالجات مالية او نقدية "تعويم و تحرير"
وصلنا مرحلة من الاختناق استخدمت فيها ناقلات المواشي وسائل مواصلات "بشرية" ايام البطاحات اول ايام ثورية نائب الوالي يوسف - رامبو - عبد الفتاح، ثم الدفارات.. و لجأت كل الوحدات الحكومية "المدنية و النظامية" و شركات القطاع الخاص الي اقتناء اسطول من عربات النقل لتعمل علي احضار و ارجاع موظفيها و عمالها، و في ايام الرخاء استجلبنا حافلات و باصات مكيفة لكن سرعان ما عدنا لوسائل نقل الماشية!
ان أزمة مواصلات الخرطوم و أغلب المدن الأخري لا تكمن في فرق السعر بين الوقود المحلي و الاجنبي و لا في قيمة تذكرة النقل و تعرفة المواصلات!
أصل المشكلة و أسها يكمن في العشوائية و غياب التخطيط.
في الامكان الزعم ان اخر تخطيط طرأ علي قطاع المواصلات كان ايام "الترام".. اما بعد ذلك فان خطوط المواصلات و محطاتها و مواقفها تركت لهوي سائقي الحافلات و الباصات و "الكماسرة- المتحصلين" و "الكمسنجية - عمال تنظيم المواقف و الخطوط"، و حتي غرف اتحاد او نقابات النقل و المواصلات فقدت السيطرة علي هذا القطاع و انعدمت اية جهة تملك قدرة علي تنظيم هذا القطاع، اما ادارة النقل العام و البترول بالولاية و المحليات فقد اكتفت باصدار تعرفة بين الحين و الاخر؛ و حتي هذه المهمة فتخلت عنها اذ ان اخر تعرفة رسمية صدرت فقد كانت في ٢٠١٣م التي اعقبت اجراءات التحرير و التي اثارت سخط شعبي و انتفاضة (سبتمبر) و استشهد فيها و اصيب المئات من المدنيين، بعدها لم تعد السلطات تجرؤ علي اعلان اي قرار يتعلق بهذه المسألة و تركت تعرفة النقل للشد و الجذب بين المواطنين و ملاك و سائقي مركبات النقل!
اليوم فان الخرطوم علي ضخامتها و ترامي مساحاتها (اقرب الي مدينة - متروبوليتان) يترك قطاع مواصلاتها لاجتهاد القطاع غير المنظم، و لا وجود لمدينة في العالم بحجم الخرطوم او اقل منها و قطاع مواصلاتها بلا ضبط و بلا تنظيم.. أي مدينة في العالم لديها خارطة مواصلات تعلق في المواقف العامة و المحطات المركزية و يمكن لكل مواطن او زائر ان يحصل علي نسخة منها .. اما هنا فلا وجود لهكذا خارطة ليس لأنها لم ترسم بل لأنه لا يمكن رسمها اذ لا وجود لها حتي في الخيال، خصوصاً خيال مسؤولي الولاية و محلياتها!!
من مبكيات و طرائف مواصلات الخرطوم ان الوالي السابق "عبد الرحيم محمد حسين" قال لبعض سامعيه ان مشكلة مواصلات الولاية لا حل لها (ليس في مقدور رجل ان يعالج ازمتها وان كانت صلعته اكبر من صلعة الوالي نفسه)!
اما الحكومة الانتقالية فانها لم تكلف نفسها مشقة محاولة التعاطي مع الأزمة! و لم تبذل الا محاولات و لم تقم الا بتدخلات خجولة لم تتجاوز محطة المناشدات و النداءات لتخفيف الازمة عند احتقانها عبر استخدام مركبات الدولة "الحكومة و الجيش و الشرطة و الدعم السريع و مركبات المواطنين - فضل الظهر!".. فيما لم تنجح شركة المواصلات العامة الوحيدة في السودان - مواصلات ولاية الخرطوم "باصات الوالي" في تخفيف حدة الازمة لأن اسطولها لا يغطي الا اقل من ١٠% من حجم القطاع و حاجته الفعلية، رغم اسناد ادارتها لمدير من قادة احزاب الحرية و التغيير!
كان هذا علي ايام الوالي المكلف "وزير الحكم الاتحادي" اما الوالي الحالي فلا يبدو ان المواصلات من انشغالاته اذ اكتفي بأن الازمة خفت نتيجة تحرير سعر الوقود و بالتالي تحرير سعر و تعرفة النقل! مع ان خفوت حدة الازمة لا يعني انتهاءها لأن اسبابها لا تزال قائمة و من الممكن ان تتفجر في أية لحظة، بل انها تتعقد عند أقل اضطراب "مظاهرات او احتجاج" او مع أي تقلب في حالة الطقس "هطول امطار او هبوب غبار و أتربة".
لذا من الواجب وضع معالجات جذرية و تخطيط هذا القطاع و تحديثة بحيث يتم و ضع حد نهائي لمعاناة المواطنين و المقيمين و الزائرين، علاج عشوائية هذا القطاع يمكن ان توفر خدمة مواصلات سريعة و رخيصة و مريحة و منضبطة يعتمد عليها، هذا بدوره سيقلل الضغط علي النقل الخاص و بالتالي الانفاق علي الوقود و قطع الغيار، و من ثم سيقلص الزحام و ما يلازمه من اهدار للوقت و من انبعاثات بيئية.. الخ
ان الوصفة التي يمكن وضعها لعلاج ازمة المواصلات تتمثل في:
اولاً: عدم الترخيص لافراد للعمل علي الخطوط و كل من يرغب في العمل في قطاع المواصلات بخط معين عليه ان يندرج ضمن شركة نقل او جمعية نقل تعاونية او نقابة نقل، بحيث يتم التأكد من تنظيم العمل و توزيع المركبات علي ساعات اليوم..
لأن المجموعات "شركات و شراكات و جمعيات" يسهل عملية مراقبتها و مساءلتها و توجيهها و معالجة مشاكلها بعكس عمل الأفراد.
ثانياً: اعادة تخطيط و رسم خارطة المواصلات العامة بالولاية، مع التركيز علي خطوط طويلة في كل الاتجاهات "طول و عرض" و خطوط دائرية بحيث تخدم اكبر مساحة ممكنة و اكبر تجمعات سكانية و تجمعات اسواق و خدمات، و ان يتم وضع هذه الخارطة و خطوط سير الباصات و الحافلات و محطاتها بواسطة مهندسين متخصصين في تخطيط المدن و حركة السير و المرور و خبراء شرطة المرور.
ثالثاً: الغاء او تقليص العمل بنظام المواقف في قلب المدن الثلاث بحيث يتم التخلص من الزحام و من تكدس المركبات في مناطق مزدحمة علي ان تكون المواقف في نقاط البدء خارج الزحام، و تلزم المركبات بعدم التوقف "بالنمرة" لوقت طويل في مركز المدن الثلاث.
رابعاً: متابعة الاشكالات التي تظهر نتيجة اتباع النظم الجديدة و موالاتها بالمعالجات اولا باول.. و تحديد الجهة المسؤولة عن الاشراف علي تنظيم قطاع المواصلات الداخلية، و ليكون المبدأ الاساسي هو ان المواصلات و النقل الداخلي هو خدمة في المقام الاول و الخدمات و ان كانت جزء اصيل من السوق الاقتصادي الا ان ضوابطها و احكامها تختلف عن ضوابط السلع.
" كتب هذا المقال قبل تحرير سعر الوقود و بالتالي تعرفة النقل و المواصلات، صحيح ان ذلك انعكس في انفراج نسبي في ازمة المواصلات -و كان الثمن هو فداحة تكلفة التنقل- الا ان هذا لا يمثل حل حقيقي، فستبدأ المشاكل تظهر و حالياً العاملين بقطاع المواصلات يشكون (بوار خدمتهم) و ضعف الاقبال عليها و بالتالي تناقص عائداتهم كجزء من الكساد الكبير .. فيما لا تزال حالة العشوائية و التخبط و الهدر متواصلة، و لا تزال ازمة المواصلات تنتظر الحلول العملية و العلمية".
١٨/ ٨/ ٢٠٢١م
تعليقات
إرسال تعليق