صحيح تماماً ان تنظيم الجبهة الاسلامية (الحركة الاسلامية/ المؤتمر الوطني) استغل هيمنته علي السلطة عقب انقلابه في ٣٠ يونيو ١٩٨٩م، و استغل النفوذ و قوة الدولة، و شرع في تصفية القوات المسلحة و الشرطة و الأمن العام من العناصر القوية و غير الموالية للاسلاميين و لانقلابهم عبر سياسة الصالح العام، كما شرع في ملء تلك المؤسسات بالعناصر المنتظمة سياسياً في صفه، حتي و لو كانت تلك عناصر غير مؤهلة للالتحاق بتلك المؤسسات، و غير كفؤة للعمل بها..
و صحيح تماماً كذلك ان ثقافة عمل كاملة تشكلت لدي منتسبي تلك المؤسسات "العسكرية"، ثقافة قائمة علي عقيدة لدي العسكر بأن الاسلامويين هم التيار السياسي الأقوي.. و انه ربما يسود و يحكم الحياة العامة لعدة عقود (و ربما للأبد- بحسب ما بدا لهم)، لذا يجب عليهم ان ارادوا الاحتفاظ بامتيازات عملهم و مهنتهم و حظوظ الترقي فيها (اضافة للامتيازات غير المباشرة التي بدأ نظام الانقاذ في اغراق العسكر بها بغرض شراء ولاءهم) فان عليهم عدم إبدأ أي مقاومة او معارضة لسياسات تلك الحكومة و سياسات حزبها الحاكم، و عدم الاعتراض علي قرارات عناصره المتنفذة تنظيمياً.
لكن كل ذلك لا ينبغي ان يعمينا عن الحقائق الاساسية، و هي:
- القوات العسكرية، و الجيش تحديداً، منظمة عمل و مهنة، و بغض النظر عن الجهات التي تهيمن عليه او علي الدولة فان ما يحكم القوات العسكرية هو قواعد عمل و ثقافة مهنة، و أسس العلاقة بين افراده و بين المرؤوسين و الرؤساء فيه هي علاقة عمل، و ليست ثقافة سياسية او ايدولوجية..
- الحركة الاسلامية و المؤتمر الوطني تنظيمات سياسية (ايدولوجية) و الثقافة التي تسود فيه ثقافة سياسية، و العلاقة بين افراده علاقة سياسية بحتة، علاقة قائمة علي المصلحة السياسية، سواء كانت مصلحة انتفاع قريب و مباشر او مؤجل و استراتيجي ..
لذلك و مهما حدثت من هيمنة، من أي طرف منهما علي الآخر، و ان بدا ان هناك ثقافة سلطوية واحدة تتحكم في كلا الجانبين، فإن الفروق بينهما تبقي امر واقع و ان اختفت تحت ركام الدعاية السلطوية و الهتافات و الشعارات، و لابد من ان تبرز تلك الفروقات متي ما هدأت الدعاية السياسية و الايدولوجية و السلطوية.
هذا بالضبط ما حدث في ١٩٩٩م فيما سمي بالمفاصلة، و التي نجحت العناصر العسكرية فيها من قلب الطاولة علي السياسيين "الحزبيين في المؤتمر الوطني" و احكام سيطرة العسكريين علي مؤسستهم و علي الدولة و علي التنظيم السياسي نفسه -المؤتمر الوطني.
ربما نجحت الدعاية السياسية اللاحقة لما حدث في ١٩٩٩م (المفاصلة) في تحجيم ما حدث و كأنه صراع داخلي خاص بالتنظيم الاسلاموي لا شأن للمؤسسات السياسية و الوطنية (الجيش نفسه و الاحزاب) به؛ لكن النظرة المجردة و الفاحصة لابد ان تكتشف بأن ما حدث هو شكل صريح من اشكال صراع العسكر و المدنيين.
فالمؤسسات العسكرية تحتفظ دائماً بطابع المهنة الذي يميزها عن المدنيين، و حتي اذا جمعتهم (المدنيين و العسكريين) عقيدة سياسية او ايدولوجية واحدة فان حرص المؤسسات العسكرية علي اضفاء طابعها الخاص علي افرادها (طابع الانتساب لمهنة و علاقة العمل) يبقي موجوداً و مؤثراً، و حرص افرادها علي الاحتفاظ بالطابع الذي يميزهم يبقي كذلك حاضراً ..
كذلك حتي في ٢٠١٩م عندما فشل السياسيين في المؤتمر الوطني في احتواء التظاهرات و الاضطرابات و التي تفاقمت حتي وصلت مرحلة الاعتصام (محاصرة المحتجين لمقر الجيش) فإن "عسكر التنظيم" حاولوا انقاذ النظام؛ و لكن عبر الاقدام علي نوع من الجراحة فيه؛ فحاولوا اولاً ان يميزوا بينهم و بين السياسيين المدنيين في المؤتمر الوطني! فقالت اللجنة الامنية "العليا" في بيانها الأول انها ظلت تناشد السياسيين -قادة حكومة المؤتمر الوطني- بأن يجدوا حل سياسي للأزمة -لأنها ازمة سياسية- و الا يعمدوا للحلول الأمنية!!
تلك الجراحة فشلت لأنها راهنت علي اصطحاب كامل الطاقم الأمني؛ بمن فيهم مدير جهاز الامن و نائبه و مدير الشرطة و رئيس اركان الجيش و وزير الدفاع، فمقاربة عزل العسكر عن المدنيين هنا لم تجدي لأن التداخل (في قمة الاجهزة) دائماً ما يكون اوضح من ان تتم تعميته و انكاره.
و تلك الجراحة فشلت لأنها لم ترضي العسكريين قبل ان تفشل في ارضاء المتظاهرين ..
طول امد فترة حكم الاسلاميين و افتقارهم للحساسية تجاه انظمة الحكم (و استقلالية و احترافية الاجهزة) لم تنعكس فقط علي القوات العسكرية النظامية (و علي الجهز الاداري المدني كذلك، لكن تلك قصة أخري)، انما ظهرت كذلك في تبلور عديد القوات غير النظامية و المليشيات الموالية للنظام (الدفاع الشعبي، قوات السلام، حرس الحدود، الدعم السريع، الشرطة الشعبية .. الي آخر قائمة ما عرف بالقوات الصديقة) و المعادية له (قوات حركات الكفاح المسلح المعارضة) ..
هذه الفوضي (النظامية) كذلك لم تضمن لهم استقرار العلاقة بين العسكر-سياسيين و المدنيين السياسيين !!
هذه العلاقة تحكم في العادة بالدستور و بالقانون العام، و بابجديات انظمة ادارة الدولة و لوائحها و قوانينها و ارثها و تقاليدها الراسخة المرعية، اما ادارتها ب(الفهلوة و الشطارة السياسية) فمهما كانت شطارة اللاعب السياسي فان اول خطأ من جانبه و زلة قدم او لسان ستقود الي كارثة يكون (اللاعب السياسي نفسه) اول من يدفع ثمنها؛ و حسن الترابي هو من اوضح النماذج علي ذلك اضافة لعلي عثمان و نافع علي نافع و عوض الجاز .. الي اخر القائمة السوداء.
و مثلما حاول عسكر التنظيم (العساكر المسيسين) في قمة هرم القوات تحميل السياسيين المدنيين مسؤولية الفشل فان مدنيي التنظيم الاسلاموي يبحثون عن كباش فداء في القوات العسكرية لتحمل عنهم مسؤولية الفشل؛ لذا سمعنا منهم من يتهم قوش (و ابنعوف و عبدالمعروف/ وزير الدفاع و رئيس الاركان) يتهمهم بخيانة الحكومة و حزبها !!
بل و في صفوف مدنيي التنظيم من يسعي لتحميل الرئيس البشير وحده مسؤولية كامل اخطاء النظام و اوزار ثلاثين عاماً من التجريب و الاخطاء و الكوارث، و سمعنا من يقول ان الذي سقط هو البشير (رأس النظام) اما التنظيم -حزب المؤتمر الوطني فباقي !!!
و بينهم من يحاول ان يركز نقده علي قوات الدعم السريع و قائدها لتحمل كامل جريرة الثلاثين عاماً من الاجرام المنظم، و من يحاول تركيز سهام النقد في مرحلة ما بعد السقوط علي حركات المعارضة المسلحة و الاستمرار في خطاب شيطنتها، و انتقاد تحالف المعارضة الذي طفا لسطح الاحداث بعد التغيير .. لكنهم (مدنيو التنظيم) يتحاشون نقد القوات المسلحة و الاجهزة النظامية الاخري و قادتها من (رفاق التنظيم)، لأنهم يعرفون مدي القوة الضاربة الذي تتمتع به تلك القوات، و الرسوخ و قدر المقبولية الذي تتوفر عليه؛ ظناً منهم ان صيغة من صيغ علاقات الماضي يمكن ان تعود و تسود مرة أخري، فيعودوا للسلطة تحت كنف تلك القوات و ليخدموا بذات العلاقة القديمة رئيس و قائد جديد يخلف البشير بذات الشروط ..!!!
و رغم حرصهم (مدنيي التنظيم) هذا فان العسكر بدأوا يشعرون بالعبء الذي يمثلونه و كان التحذير الصريح من قائد الانقلاب - القائد العام لهم (المؤتمر الوطني) من مغبة الاختباء خلف الجيش، و مطالبته لهم بأن (أرفعوا ايديكم عن الجيش)، هذا التحذير رغم انه يمثل علامة مهمة الا ان قليلين من (مدنيي التنظيم) التقطوه و وعوه؛ اما الاغلبية فطفقوا يكيلون الشتائم تلميحاً و تصريحاً لقائد الانقلاب و يتأهبون لمواجهة معه، ظناً منهم ان الجيش ينبغي ان يكون تابعاً لهم، و ان تدخل الآخرين من القوي السياسية ممنوع اما تدخلهم هم فمباح !!
هذا الأمر (عودة ذات صيغة العلاقة القديمة بينهم و بين قادة القوات المسلحة و النظامية) ليس مستحيلاً فقط بسبب ان التاريخ لا يجري للخلف! لكن لأن تلك العلاقة غير السوية و غير المستقيمة التي ربطت العسكر بالمدنيين نشأت في ظروف سياسية معينة و محددة تبلورت فيها و أدت اغراضها لعناصر خرجت من المشهد، كما ان تلك العلاقة لا تعتمد عن نهج محدد يمكن اعادة تطبيقه او اتباعه، انما هي علاقة نتجت عن ملابسات عشوائية و (بمصادفات) ..و يستحيل ان تعود نفس الظروف و ذات المصادفات التاريخية و ذات عشوائية الاحداث لتنج عنها ذات العلاقة بنفس الشروط!!
تعليقات
إرسال تعليق