قانون ازالة التمكين برغم توافق المكون المدني (مجلس الوزراء و الحاضنة السياسية) و المكون العسكري علي سنّه و العمل به طيلة الفترة الماضية إلا انه و بلا أدني شك احد اغرب القوانين، و قولنا هذا لا يعني ان تفكيك التمكين و استرداد الاموال المنهوبة عمل مستهجن أو امر غريب؛ بل العكس تماماً اذ هو أمر مرغوب و مطلوب بشدة بل و مشروع تماماً، لكن كان ينبغي ان يتم بموجب تدابير مختلفة عما تم التوافق بشأنه، و ان يتم وفقاً لحكم القانون و في سياق منظومة قانونية مستدامة و مستقرة ..
و لقولنا ان قانون تفكيك التمكين قانون غريب عدة وجوه واسباب نجملها في:-
اولاً: ان القانون و وفق ما جاء بفقراته ينص علي انه قانون انتقالي! و أنه ينقضي بانقضاء مهام التفكيك و بانقضاء الفترة الانتقالية! (أو لأقرب الاجلين؟!!!)، و هذا يتنافي مع احد شروط القوانين، فالقانون (أي قانون) يفترض فيه الاستقرار و الاستدامة و العموم ، و لا مجال لقانون يتم سَنّه ليسود لفترة محددة أو لغرض (عمل) بعينه و ينتهي بانتهاء الغرض أو الفترة الزمنية، هذا النص يخرج به عن كونه قانون ..
ثانياً: الترتيبات المنصوص عليها في متن القانون و التي تحكم تطبيقه لا تتماشي كذلك مع الصفة القانونية، فالقوانين تُسنّ لكي تطبقها المحاكم العادية، أو الجهات ذات الطبيعة القضائية أو شبه القضائية أو التي تمنحها الجهات المختصة (السلطة القضائية) الصفة القضائية، فيما قانون تفكيك التمكين انشأ لجنة (لجنة ازالة التمكين) و خولها سلطة ممارسة أعمال قضائية بل و تمادي بأن انشأ لجنة استئنافات خاصة للنظر في أعمال لجنة ازالة التمكين بما يمثل خصماً اضافياً من سلطات القضاء!
كما ان إنشأ محكمة خاصة للنظر النهائي في قرارات لجنة الاستئناف، و هنا ينشأ اشكالان؛ الأول يتعلق بمبدأ سيادة حكم القانون و المساواة أمام القضاء، و الذي يقتضي ان ينظر القضاء العادي كل المنازعات فيما المحكمة الخاصة (و القضاء الخاص) يمثل خصماً علي مبدأ سيادة احكام القضاء العادي.
و الاشكال الثاني، يتعلق بنهائية احكام المحكمة ما يعني تقليص درجات التقاضي و حرمان المتظلم من درجة تقاضي متعارف عليها.
صحيح ان مكافحة سياسات و نتائج و اثار "تمكين" استمر لثلاثة عقود و خلق واقعاً معقد؛ يصعب علاجه بادوات المنظومة العدلية و وتائرها التقليدية، كما ان المنظومة العدلية و القضائية و القانونية في السودان و خصوصاً بعد سنوات التجريف القانوني و العدلي ليست في وضع يسمح لها بالتصدي للمهام الروتينية ناهيك عن تحديات انتقال نحو سيادة حكم القانون و انتقال ديمقراطي..
لكن كل ذلك لا يبرر اطلاقاً اهدار مبادئ القانون و العدل بحجة تحقيق العدالة! فتحقيق العدل له طريق واحد هو طريق اتباع "الأسس القانونية السليمة" و انتهاج اي طريق آخر مهما كانت المبررات قوية و الغايات نبيلة يعني امر واحد هو التضحية بالقانون كمقدمة و لا نتيجة منطقية لذلك إلا التضحية بالقانون في الختام.
ضعف الاطار القانوني ليس مبرر لأن قانون تفكيك التمكين هو نتاج لذلك الواقع التشريعي و للعقلية القانونية التي سادت في حقب اللاقانون!
ان الوقت الذي اهدر في صياغة و تعديل هذا القانون لو تم توظيفه لمراجعة القانون العام (القانون الجنائي و قانون الثراء المشبوه و قانون مكافحة الفساد..) لكان أجدي و انفع و أبقي اثراً، و لما تركت حجة للذين يطعنون في قانون التفكيك اليوم و في صحة و عدالة اجراءاته..
و لو تم الإنتباه لضرورة اصلاح المؤسسات العدلية و القانونية منذ اليوم الاول لكنا اليوم في مركز أفضل .. فأين هو قانون اصلاح المؤسسات العدلية؟ أولم يسأل ساسة و قانونيو قحت انفسهم لماذا وافق "المكون العسكري علي قانون التفكيك" و يمانع في إجازة قانون اصلاح المؤسسات العدلية!؟
و متي ستلتفت قحت و حكومتها لاصلاح مؤسسة الشرطة؟ وصولاً لتأسيس جهاز يمثل ذراع القانون القوي لا ذراع المستبد و مؤسسة تعمل وفق مبادئ حكم القانون و تقترب اكثر الي كونها ادارة مدنية لا ادارة حربية!
اقامة دولة حكم القانون و مؤسساته و التي كانت علي رأس مطالب ثوار ديسمبر-ابريل تم تجاهلها، و تشريع قانون (ازالة التمكين) و ما صاحب كتابة الوثيقة الدستورية من لقط يؤكد ان الذراع القانوني لائتلاف "قحت" يعاني من اختلالات بيّنة، و تحالف المحامين الديمقراطيين هو قمة ما يجب اصلاحه، فتحالف المحامين و قانونيي قحت جزء من المنظومة القانونية "للنظام السابق" و انتقالها لتكون رأس الرمح في التغيير العدلي و القانوني يحتاج لمراجعة و تدخل عاجل.
لقد نظمت السلطة مؤتمرات باهتة بشأن التعليم و الاقتصاد (المؤتمر الاقتصادي الاول) فيما لم يحظي حكم القانون بأدني نصيب من الاهتمام! رغم اهميته التي لا جدال بشأنها، فسنوات من الافلات من العقاب و المساءلة و ضعف المؤسسات العدلية و تقويض استقلالها يستدعي ان يفرد له نصيب من الحوار و ان لا ينحصر الجدل بشأنها في غُرف اعداد قانون اصلاح المؤسسات العدلية.
لا احد يقول ان قانون "تفكيك نظام الثلاثين من يونيو" هو اداة للعزل السياسي، فالسودان لم يعرف في تاريخه القانوني منظومة العزل السياسي القانونية كما العراق او مصر او تونس، فالنظام السوداني القانوني ينتهج منهج القانون العام و الذي يعلي من مبدأ الاستقرار القانوني و يحكم علي كل التطورات من خلال القانون العادي و المستقر و لا يبتدع مبدأ لكل حالة (و حديث لكل حادثة)! و لذا لا موقع و لا تكييف ل"قانون" ازالة التمكين في منظومة قواعد القانون السوداني، فهو يبقي كالكلمة الشاذة، المدهش ان ذات الذين لم يؤمنوا قط بأن ثورة شعبية و "سلمية" يمكن ان تطيح بنظام القمع المتطاول يوماً هم ذاتهم اليوم الذين لا يؤمنون بأن دولة حكم القانون يمكن ان تحسم مرحلة التجاوزات و الانتهاكات - السابقة، و تخلق الاستقرار المنشود مستقبلاً و تحدد الخطوط و الابعاد و الحقوق و الالتزام"، هؤلاء يقفون خلف الاجراءات الاستثنائية، و ينظرون الي قوة القانون علي انها "قوة ناعمة" و وديعة منزوعة الاظافر و الاسنان و لا تقوي علي حماية المصلحة الوطنية و المحاسبة علي انتهاكات الماضي!
فمبدأ "الاثراء بلا سبب مشروع" يصلح كقاعدة لاسترداد المال العام و قانون مكافحة الثراء الحرام و المشبوه يصلح (ان خضع للمراجعة و التعديل؛ و الغاء قاعدة التحلل الدخيلة و المخزية) كأساس للحكم علي كل المخالفات.. و بناء و ترميم منظومة مكافحة الفساد بالياتها المختلفة (مفوضية مكافحة الفساد، المراجع العام، النائب العام، مباحث الاموال) اضافة لجهاز الرقابة الادارية و الاستعانة بالمنظمات المدنية التي تعمل في الحقل الحقوقي و تعني بالشفافية و مكافحة الفساد..
تعليقات
إرسال تعليق