لم يكن، حين عرض اوراقه التي تشرح حاله وتبين
حاجته وتدعم ما يرويه، لم يكن؛ حين عرضها علي مجموعة لا يدل سمتها علي ان فيهم من
يختلف عمن ظل يعرض عليهم حاجته لأشهر قضها سعياً في اسفلت المدينة وأسمنتها.. فغاية
ما توقعه ان يساعدوه بجنيهات قليلة إن لم يديروا له وجوههم ويزوروا عنه، تقدم
نحوهم بملامحه التي هدها التعب والجوع، ببشرته التي لوحتها شمس شوارع الخرطوم التي
لا ترحم، بملابسه التي تروي رقة حاله، بجلبابه "والذي مثل صاحبه يستمسك
بالصبر قد علته غبرة وتشرب بالعرق، بعمامته التي فعلت فيها اصابع الزمن فيها
الافاعيل، بحذاءه الذي ما أفادته شكواه الواضحة الفصيحة لكل ذي نظر وحكمة.. تقدم
نحوهم شارحاً مأساته وراوياً قصة ابنته الصغيرة التي ألم بها مرض عضال لا تتحمله
سنواتها الغضة، مرض اعجز اطباء البلاد فأقروا بحاجتها الي السفر لتلقي العلاج بأحد
مستشفيات العالم الأول، قدم الاوراق بثقة وهو يعلم انها تشرح ذلك افضل منه فهو
الريفي الذي لم تحوجه الدنيا من قبل الي لغة يسأل الناس بها إلحافاً.
نقده بعضهم جنيات لا تغني، بينما يهم
بالانصراف أحس بنظرات احدهم تختلف عن جميع من عرض عليهم حاجته من قبل، نظرة تفحصته
وسبرت اغواره بحنكة .. وجه اليه صاحب النظرة حديثه طالبا منه ان يلاقيه صباح الغد
في ذات المكان بعد ان دس في يده ورقة مطوية قال له ان فيها اسمه ورقم هاتفه.
اتي باكرا في اليوم التالي وهو يسائل نفسه عما يمكن ان ينتهي اليه هذا اللقاء،
دقائق معدودة أتي بعدها الاستاذ "طارق"، وهذا هو الاسم الذي قال له احد
اقاربه انه مكتوب في الورقة المطوية، قاده الاستاذ الي احد المباني الحكومية
القريبة، انفتحت امامهم الابواب، لول مرة في حياته يمر بهذا العدد من الابواب دون
ان يستوقفه احدهم او يصده، اذا انا في صحبه شخص مهم "قال محدثا نفسه"
وهو الذي كان غاية طموحه ان يتعرف عليه موظفوا الاستقبال، قابلا موظفة استلمت منه
الملف الذي لم يفارقه لأشهر، وخرج بصحبة الاستاذ "طارق" الذي ودعه عند الباب واعدا
اياه بإتصال عند انتهاء الاجراءات "يومين او ثلاثة بالكتير وينتهي
الموضوع" هكذا اخبره.
قبل
ان تنقضي المده اتصل به "طارق" وطلب اليه ان يوافيه امام المبني
الحكومي.ز وعند وصوله اخبره بأن المسألة قد حلت، دخلا الي "الموظفة"
وقام بالتوقيع علي بعض الاوراق كما طلبت، ثم ذهبا الي الخزانة واستلم رزمة من
الاوراق المالية. في الخارج أفهمه "طارق" ان الادارة وافقت بعد الحاح
علي التكفل بكامل مبلغ العلاج وعلي تسليمه نقدا وحالا علي خلاف ماهو متبع في مثل
هذه الحالة، وان توفيق من الله وحده هو ما سهل الاجراء،
جلس
الرجل علي اقرب الاحجار الخرسانية بين مصدق ومكذب ويداه تتلمسان الاوراق المالية،
تعرق جسده برغم اعتدال الطقس في ذلك اليوم واقرورقت عيناه بالدموع، وشرع في عد
الاوراق، خشي "طارق" ان يؤخره الرجل وهو يحصي هذا المبلغ الكبير ويفوت
عليه التزاماته فاراد ان ينصرف ..لكن الرجل استوقفه وفاجأه بان اقتتطع جزء من
المال ومد به اليه، سأله "طارق" بغضب ظاهر ولكن بادب ايضاً : (دا شنو؟؟)
(قالوا الزول البمرق القروش من الحكومة بيعطوه منها!) رد الرجل بارتباك.
أجابه طارق سريعا: ( شوف يا حاج، القروش دي
ماحقتك.. دي قروش البت المسكينة،الحمدلله وفقنا عشان تتعالج وتخف مصيبتكم، ما
تتصرف في القروش دي اي تصرف).
شكره الحاج ودعي له وانصرف في حال سبيله.
مرت
ايام تلقي بعدها "طارق" مكالمة هاتفية من "الحاج" طالبا
مقابلته، توقع ان تكون هناك عقبة ثانية وهاهو يطالب مساعدته، انهي ما كان امامه من
اعمال وخرج لمقابلة الحاج امام المبني الحكومي تسهيلا له فهو يعلم ان
"الحاج" غريب هنا ولا خبره له ولا معرفة بدهليز وازقة هذه المدينة
المخيفة، عند وصوله الي المكان المالوف وجد الحاج بإنتظاره متأبطاً لفافه من ورق
الصحف، ما لبث ان وضعها بين يديه .. (دا شنو؟؟) سأله طارق.
( دي القروش... سكت لبرهة ثم بعد ان ابتلع
ريقه في حسره أضاف ربنا شال وديعته، والبنية ماتت، الحاجة الـ شلت المال من اجلها
انقضت، بدور ارجع ليكم قروشكم) قالها الحاج بحزن لا يوصف.
(المال بعد يطلع من الحكومة ما برجع تاني)
أتي رد "طارق" بعد لحظات من الصمت ذي المغزي خالها دهرا.
أصر الحاج علي رأيه ورفض حمل المبلغ ، وعندما
احس "طارق" بأن مسعاه لإقناع الحاج قد يبوء بالفشل فالاشخاص في مثل سن
الحاج لا يتراجعون بسهولة عما يزمعون، لذا طلب منه اصطحابه الي الموظفة التي صادقت
علي تسليم المال فان قبلت كان بها.. دخلا علي
الموظفة وجداها مشغولة باوراق
امامها ، سالتهم عن الامر دون ان ينصرف اهتمامها عن الاوراق. قال لها "طارق" ان
هذا "الحاج" كان قد حصل علي مبلغ..
قاطعته الموظفة بعصبية قائلة انها تذكر ذلك
جيداً وانها قد فعل كل ما هو ممكن وأكثر قليلاً وان ليس في وسعها فعل أي شئ مجدداً،
طلب منها "طارق" التريث
ريثما يروي لها سبب قدومه.. تحدرت منها دمعات ثم بعد ثوانٍ مرت كأنهن دهر
ثانٍ قالت موجهة حديثها للحاج ، وبصوت هو اقرب للنحيب : ( القروش بعد تمرق من
الخزنة لا يمكن اعادتها، دي قروشكم اتصرفوا فيها بمعرفتكم)
خرج
"طارق" بصحبة "الحاج" وهو يفكر في كلمات يعزيه بها لكنه ايقن
ان ما من كلمة يمكن ان تعزي مثل هذا الرجل، لذا ودعه بأن اكتفي بان ضغط علي يده
برفق،
هي
قصة حقيقة رواها لي صديق هو بطلها وها أنذا اتركها لكم بلا تعليق فما من كلمات
ايضاً تصلح هنا لتصوغ مغزها .
تعليقات
إرسال تعليق