التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الانتخاب كمرادف للحق الالهي عند الاسلاميين *



"*نشر بصحيفة الايام في العام 2008 تقريبا"  
 الي وقت قريب كانت كل الحركات الاسلامية التي بدأت تقتحم ميادين العمل السياسي ،كانت لا تؤمن بالديمقراطية وافكارها ومبادئها ولاتقبل بالانتخابات كطريق وحيد يقود الي السلطة والحكم، وتعتبر ذلك كله رجس من عمل الكفار و وحي الابالسة ، وتعتمد بالمقابل حزمة من الشعارات " الاستخلاف في الارض، الحكم بأمر الله" الي غير ذلك من المفاهيم الغامضة والملتبسة التي تصب في خانة التفويض الالهي.
  هذا الوضع كان يسهل معه التصدي الفكري بالجدل ومقارعة الحجة لكشف هشاشة الاسس التي تقوم عليها تلك الحركات ويسهل فضح افتقارها الي اي سند منطقي او عقلاني واثبات انها لاتصلح كبديل سياسي و لاتمثل خيارا او بديلا مقبول.
   لكن ولما كانت معظم الانظمة الحكمة في البلدان العربية والاسلامية "ان لم نقل كلها" هي انظمة ديكتاتورية وحكومات شمولية ...لكونها جزء اصيل من منظومة دول العالم الثالث التي تعاني تخلف سياسي واقتصادي واجتماعي؛  ولما كانت معظم الحركات والاحزاب "الديمقراطية" القومية وغير القومية تعاني من اشكالات جوهرية جعلتها هي الاخري لاتمثل خيارا راشدا فان هذا الوضع المركب عزز من فرص الحركات الاسلامية لتفرض رؤيتها وتسوق خياراتها في ذلك الفضاء الفكري والسياسي الفقير.
  تصادف انه ومع تنامي الحركات الاسلامية وتمددها عمليا علي الأرض أن شهد العالم تنامي مد ديمقراطي اجتاح بلدان الشعوب المقموعة خصوصا مع انهيار النظم الشيوعية في روسيا وشرق اوروبا "لدرجة ان احد من اسكرتهم نشوة النصر – فوكوياما- اسمي هذه المرحلة، نهاية التاريخ!!"
  كان لزاما علي حركات واحزاب "الاسلام السياسي" التعاطي مع حقائق "نهاية التاريخ" هذه .. وهنا اختلفت استجابة التيارات الاسلامية لهذه الموجه الديمقراطية العاتية والتي تسير موازية ومزاحمة لتياراتهم "الدينية" فبعضهم آثر التمسك بالموقف الرافض للديمقراطية وحاولوا تقديم "الفكر" الديني الاسلامي كبديل للفكر الماركسي والليبرالي نفسه!! وهؤلاء غمرهم التاريخ وطوتهم احداثه فاصبحوا مجرد جزر معزولة، اكبرها واقدرها علي التأثير كانت (القاعدة) التي تحالفت مع (طالبان) وعدد من الجماعات التكفيرية وصنعت حدث (برجي مانهاتن) ودخلت في عداء مفتوح مع العالم ومواجهة حلف بقيادة اقوي دولة فيه (امريكيا)، وعموما فان تنظيم القاعدة بانكاره لحقائق الواقع الفكري والسياسي في هذا العالم تحول حتي قبيل (غزوة نيويورك) الي حركة رفض وتمرد معزول ينكر مجمل الحقائق والمسلمات السائدة فعلياعلي هذا الكوكب وليست حركة دينية بالمفهوم الاجتماعي لمصطلح حركة دينية.
  بينما توصلت بعض الحركات الاسلامية الاخري الي صيغة مكنتها من فصل الانتخاب كألية وشكل اجرائي عن مضمونها وسياقها الديمقراطي، وهنا انقسمت تلك الحركات الي قسمين..
  قسم أول، وهو الذي تمكن من فرض شروطه علي خصومه ومنافسيه في  اللعبة السياسية، فرض شروطه التي تحرم الخصوم من التنافس الانتخابي .. ونجح بعد ذلك في تبني الشكل الانتخابي بصورة شبه مستديمة، أبرز مثال علي ذلك هو جماعة الثورة الاسلامية في ايران، فعملية الانتخاب في ايران لاغبار عليها (شكليا) من حيث الاستقرار فهي تجري في موعد ثابت وتؤدي الي تغيير في الوجوه وتداول للسلطة بين افراد المدرسة نفسها، فشخص الرئيس وكذا افراد طاقمه التنفيذي يتغير بصورة دورية راتبة .. لكن هذه الممارسة لم تتأتي إلابسلسلة من التجاوزات بحق قيم ديمقراطية لايكون للتنافس معني بدونها، فقد درجت مؤسسات (مصلحة تشخيص مصلحة النظام/وصيانة الدستور/ومجلس الخبراء..الخ) درجت علي وضع عراقيل بوجه غير المنتمين للتيار الاسلامي الحاكم وتمنعهم من دخول حلبة التنافس الانتخابي ابتداءاً .
  وقسم ثاني، تبني العملية الانتخابية و وافق علي خوضها لكن دون ان يكون لديه اي مانع يحول بينه وبين سلوك طريق اخر يفضي به الي السلطة!، ودون ان يكون لديه وازع يحول دون تزويره في نتائج الانتخابات او القيام بأي من الممارسات التي تدخل في معني الفساد الانتخابي.. ، وتمثل الحركة الاسلامية في السودان (المؤتمر الوطني- والشعبي) أبرز أمثلة هذا القسم ، ودونكم تصريحات الدكتور حسن الترابي مؤسس وعراب هذه الحركة والتي يقر فيها بانهم درجوا علي تزوير الانتخابات العامة وانتخابات النقابات وحتي اتحادات الجامعات!!.
   هناك حركات سياسية دينية اقل نضجا من من تلك التي ادرجناها في القسمين المشار اليهما ، اقل نضجا لأن تجاربهم في الحكم لم تكتمل بعد، وهي حركات لا تري في الانتخابات غير كونها وسيلة يمكن ان تقودها الي السلطة وتكفيها شر القتال في سبيل السلطة ، من تلك الحركات جبهة الانقاذ الجزائرية وحماس الفلسطينية وأخوان مصر وحزب الله اللبناني..
   فجبهة الانقاذ لم تحاول مجرد اخفاء طموحها لألغاء النظام الانتخابي والغاء الحياة السياسية الديمقراطية برمتها بعد تصل عبره للسلطة ، وان تسعي بعد ذلك لتطبيق القيم والاشكال الاسلامية "التاريخية" كالبيعة او خلافه،
لكن بينما كانت في طريقها لتحقيق هدفها بعد اكتساحها للإنتخابات الجزائرية قطع عليها العسكر (حرس الثورة الجزائرية منذ الاستقلال) الطريق بانقلاب عسكري . ورغم عدم تأييدنا للإنقلاب كوسيلة في العمل السياسي ، الا ان كشف الاسلاميين عن وجههم القبيح ونواياهم السيئة، بل وارتكابهم لفظع الجرائم في حق الشعب الجزائري والتي راح ضحيتها ألاف الاطفال والنساء والشيوخ وليس عبر التفجيرات الانتحارية وطلقات البنادق الرشاشة فقط وانما بالذبح والنحر بالسلاح الابيض ، تلك العمليات التي دلت علي همجية ووحشية متعمدة لا سبيل معها لأي تبرير يدعي الخطاء او الاهمال الذي يقلل من درجة المسئولية الجنائية ، وتنعدم فيه اي شبهة تترك المجال متاحا لتقديم مبرارات اخلاقية او سيا سية.
  ان الوضع المأساوي الذي تسبب فيه الاسلاميين للشعب الجزائري "الذي كان علي وشك ان يسلم اليهم زمام أمره " يجعل غض الطرف عن ذلك الانقلاب العسكري وتوابعه المنطقية "كتفشي السياسات القمعية وانعدام الحريات السياسة والحزبية"  أمرا ممكنا بل ويمكن تبريره اخلاقيا قياسا لما كان يمكن ان يتسبب فيه اؤلئك المتطرفين لو انهم تمكنوا من الوصول للسلطة والحكم في الجزائر.
   وفي فلسطين فان حركة المقاومة الاسلامية (حماس) وصلت الي السلطة بعد ان قبلت المشاركة في العملية السياسية المنبثقة عن تفاهمات (عرفات - بيريز) وفازت في انتخابات حرة ونزيهة، وتسعي حماس الان للإحتفاظ بالسلطة مع الالتفاف في ذات الوقت علي اسس العملية السياسية  القائمة علي التفاوض والاعتراف المتبادل ومبداء حل الدولتين..الخ الانتخابات التي فازت فيها حماس انبنت بالاساس علي وضع سياسي قائم ومعتمد علي نتائج التسوية التي توصلت  اليها منظمة التحرير مع اسرائيل ، وقد وافق علي تلك التسوية الزعيم ياسر عرفات الذي لاخلاف علي شرعيته ومرجعيته بالنسبة لكل الفصائل الفلسطينية .. ان مافعلته حماس هو انها وضعت نفسها في قلب مفارقة وتريد ان تمضي فيها الي النهاية؟؟
  وبغض النظر عن الحصار الذي ضربه المجتمع الدولي علي الفلسطينيين بعد انتخابهم لحماس فان الاخيرة بدأت تفشل في ادارة وتسيير الشأن الداخلي فواجهت عقبات توفير مرتبات العاملين بالسلطة ومحاصرة الانفلات الامني والاقتتال بين الفصائل ..الخ، وبدا واضحا ان حماس لاتملك رؤية سياسية لادارة البلد الذي تواجهه استحقاقات قديمة وجديدة ، وعندما حاول الرئيس (المنتخب ايضا) عباس ابو مازن ايجاد مخرج من الوضع السيئ  بدأت حماس تتمسك بـ (شرعيتها) وتفترض بانه مامن حق ولا مبرر يمكن عبره حل حكومتها وان اي حديث عن تشكيل حكومة تكنوقراط او وحدة وطنية هو براي حماس قرار غير "شرعي" وغير ديمقراطي،  وفي تمسكها بموقفها وبسلطتها رفضت العديد من المبادرات التي تهدف لتسوية الازمة بما في ذلك (وثيقة الاسري)  وضغطت علي اسراها حتي اعلنوا انسحابهم من المبادرة ورفضوا الوثيقة التي سبق ومهروها بتوقيعاتهم!!
   وهي (حماس) بذلك تتجاهل حقيقة " انه مامن حكومة ديمقراطية تملك سلطة او تفويض مطلق يخولها البقاء حتي نهاية اجل التفويض، وان بقاء اي حكومة لكامل امدها الزمني مرهون بحسن ادارتها للشأن العام ومقبولية سياساتها لدي اوسع قطاع من المواطنيين". و تتجاهل ايضا "ان الديمقراطية التي تضع اسس تسليم السلطة للحزب الفائز في الانتخابات تضع بالقابل اسس  استرداد تلك السلطة عبرسحب الثقة أو حل الحكومة والبرلمان بواسطة الرئيس وتشكيل حكومة تصريف اعمال لحين اجراء انتخابات مبكرة".
وفي حين تري حماس ان حل البرلمان وتكوين حكومة تصريف اعمال واجراء انتخابات مبكرة  تري كل ذلك غير مقبول وغير شرعي، فان حزب الله (اللبناني) الذي خرج من حربه مع اسرائيل بنفوذ متزايد يسعي بكل الوسائل للإنقلاب علي الحكومة (المنتخبة) ويدعو الحزب لتكوين حكومة وحدة وطنية يكون تمثيله فيها افضل ليجني ثمار تنامي شعبيته بعد الحرب وليعرقل بالاساس العملية السياسية الجارية والتي تهدف الي عقد محاكمة دولية للضالعين في ما ارتكب من جرائم مؤخرا في لبنان والتي يعتقد علي نطاق واسع ان حلفاء حزب الله (سوريا وايران) وجناح الرئيس ايميل لحود ضالعين فيها.
    وفي مصر فان الاخوان الذين يشكون دائما من تزويرالحزب الحاكم لنتائج الانتخابات العامة البرلمانية والرئاسية لا يهتمون اطلاقا باثبات ولاءهم للقيم والمبادئ الديمقراطية أو تاكيد انهم لن يلجأوا الي التزوير ومصادرة الحقوق والحريات ان هم جلسوا علي كراسي الحزب الحاكم وحلوا محله!!
  ان التجارب السياسية الاسلامية كلها تدل علي ان القبول بالديمقراطية عند الاسلاميين ماهو الا قبول موغل في البرغماتية (المصلحية والنفعية) وان فهم للإنتخابات لايتعدي اعتبارهم لها مرادف لمفهوم الاستخلاف عند السنة و ولاية الفقيه عند الشيعة وهي في كلتا الحالين الوجه الاخر للحق الالهي في الحكم والتفويض الرباني (بدل الشعبي) المفضي للسلطة.
   ومالم يستوعب الاسلاميون ان التفويض الشعبي مفهوم ينتمي لمنظومة فكرية مستقلة عن الفكر الديني وهي المنظومة الديمقراطية القائمة علي حرية الفكر والاعتقاد والراي والتعبير والتنظيم... وعلي المساواة وفقا لمفهوم المواطنة ، ولا علاقة له (الانتخاب) بالتفويض او الحق الالهي فانهم لن يتوانوا عن الانقلاب عليه وعن تقويض نتائجه ومبادئ الديمقراطية برمتها ومتي ما رأوا ان ذلك في صالحهم.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم ت...

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بين...

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانته...