في كل عام كانت تمر ذكري اعدام المفكر و السياسي محمود محمد طه (يناير 1985) دون أن يسمع عنها الكثيرين! و دون أن يعرف أغلبهم شيئاً عن حياة محمود و مسيرته و ملابسات الحكم عليه!
لكن اليوم و بعد مرور أكثر من عام علي سقوط نظام البشير (و يمثل امتداد طبيعي لنظام جعفر نميري؛ الذي اعدم محمود في اخر عهده) و مع الأسف تعود الذكري في اجواء تتعالي فيها اصوات تتهجم علي المفكر الراحل و تمجد فعل الرئيس "نميري"! تتعالي تلك الاصوات في مواقع التواصل الاجتماعي بشكل ملحوظ و هي تعبر عن نزوع متطرف و هوس ديني من ذات الصنف الذي كان رائجاً أيام اعدام المفكر الراحل!
و حتي لا يساء فهم قولنا فانه يلزم التوضيح ان التضامن مع الراحل و أحياء ذكراه لا يعني بحال الاتفاق مع افكاره أو الترويج لها و الدعوة لاعتناقها؛ بقدر ما تعني الاقرار بواقعة ان ظلماً بيناً حاق بالراحل، و إن حقه في الحياة و في التفكير و حرية الرأي و التعبير قد انتهك و اهدر، و انه قتل بواسطة الدولة عدواناً في عمل يشبه أعمال القتل خارج نطاق القضاء و إن المحاكم حينها كانت خارج سيطرة القانون و لا تمثل العدالة بعد ان تم تشريد قضاتها الاكفاء و شغلت مواقعهم بواسطة اشخاص لا يمتون للقضاء بصلة و إن ما جعلهم يجلسون علي مناضد القضاء هو اعتناقهم للفقه و الفكر المتطرف و التكفيري و خنوعهم للاستبداد و خضوعهم للسلطة السياسية..
من المؤسف حقاً و بعد مضي اكثر أربع وثلاثون عاماً ان نجد رواج لذات العبارات المتطرفة و العقليات المتحجرة، فطيلة كل تلك السنوات كان حق الراحل في ان يعاد الاعتبار لصورته و مكانته قد اهدر تماما كما اهدر حقه في الحياة و في حرية الفكر و الرأي، و قد كان ذلك مُبرراً بحكم مصادرة الحريات و الحقوق.
فمن يمجدون الرئيس نميري و يتهجمون علي المفكر الراحل لا يعلمون ان الشهيد قد حوكم ب"الردة" مرتان الاولي في 1968م أمام محكمة احوال شخصية و الثانية في 1985م و في كلتا الحالتان لم تكن الردة جريمة منصوص عليها في القانون و لم تكن المحاكم مختصة بنظر تلك القضايا! و هذا في العرف القضائي خروج عن ابجديات القانون و العدل، هذا بغض النظر عن مدي شرعية و قانونية "الردة و التكفير" في حد ذاتها.
ان السكوت و التجاوز و غض الطرف عن تغول اصحاب الفقه التكفيري و تسللهم الي جهاز الدولة و الي السلطة القضائية هو ما اوصلنا في العهود السابقة الي مرحلة "تمكين" الهوس و التطرف..
أما و قد سقط الاستبداد فمن العار ان يستمر تشويه صورة الراحل و يستمر انكار حقوقه!
هذا العار هو وصمة بوجه كل النخب السياسية و الفكرية و الحزبية و وصمة عار خصوصاً بوجه كل اتباعه في مدرسته الفكرية لكونهم فشلوا في نشر الوعي الذي كرس الراحل حياته كلها لأجله و دفعها ثمناً له في النهاية.
كنا نتمني ان تحل الذكري في اجواء أفضل حتي نتطلع لمناقشة ادوار جهات عديدة شاركت في ارتكاب ذلك الجرم من بينها مؤسسة الازهر التي افتت و حرضت علي قتل مفكر سياسي و ديني؛ و هو فعل يمثل بوضوح ضيق المؤسسات الدينية الرسمية في العالم الاسلامي بحرية الرأي و التعبير و ضيقها بالرأي الآخر و الاجتهاد المختلف..
كما كنا نتطلع لمناقشة دور جهات دولية لطالما صدعت رؤوسنا بالحديث عن الحريات الدينية "الادارة الاميركية" و التي لم تحرك ساكناً لوقف ذلك العمل البشع في وقت كانت تقيم صلات دبلوماسية جيدة بالحكام في ذلك الوقت و اكبر دليل علي ذلك ان جعفر نميري عشية سقوطه بانتفاضة شعبية كان في زيارة للعاصمة الاميركية واشنطون و كان ذلك آخر عمل رسمي يقوم به!
ان موقف حكومة الولايات المتحدة من تلك الجريمة و سكوتها الذي يصل درجة التواطؤ يفضح كذبها بخصوص ادعاءها ان الحريات الدينية احد أهم محددات سياستها الخارجية؛ فيما هي لا تهتم و لا تتحرك إلا اذا كانت الاحداث تتعلق بمسيحيين أما اتباع باقي الديانات فلا تهتم لأمرهم، ما يكشف ان سياستها ليست إلا سياسة تبشيرية كنسية تغلفها بالحديث عن الديمقراطية و حقوق الانسان!
ان هذه الذكري هي مناسبة لنبذل كلنا جهد مضاعف لنحاصر التطرف و التشدد و الغلو و الارهاب حتي لا تتكرر مثل حادثة اعدام ذلك المفكر و لا تتكرر حوادث تمجيد مثل تلك الجريمة و تمجيد مرتكبيها!
يناير ٢٠٢١م
تعليقات
إرسال تعليق