التخطي إلى المحتوى الرئيسي

من المَلِك في اميركا؟

يناير ٢٠٢١م //

خلال هذا الاسبوع "أول يناير" ينعقد الكونغرس الكبير في اميركا لاعتماد نتائج الانتخابات و إعلان الرئيس الفائز "بايدن" بصورة رسمية و نهائية لتنتهي بذلك اسابيع من الجدل و التشكيك و المحاولات الفاشلة لقلب نتيجة الانتخابات و تثبيت الرئيس المنصرف "ترامب"، و تنهي حالة لأول مرة تختبرها اميركا و هي الاقتراب من حافة الانتقال العسير..

  الفلسفة التي قامت عليها الدولة و السلطة التنفيذية الاميركية منذ تأسيسها في 1776م؛ و ما جعل الاميركان فخورون به علي كل الامم و الشعوب و علي البريطانيين تحديداً تختصرها المقولة "في اميركا القانون هو المَلِك بينما في بقية العالم المَلِك هو القانون".. أي ان السلطة السياسية في اميركا تخضع كما المواطن للقانون بينما في الدول الاخري كلمة المَلِك تعادل القانون أو تسمو عليه و السلطة السياسية "الحكومة" لا تخضع للقانون.

لكن رئاسة ترامب وضعت ذلك الفخر و تلك المقولة علي محك الاختبار الحقيقي، فشاهدنا و شهدت اميركا كيف يمكن لرئيس لا يؤمن بقيمها ان يرتقي ل"عرش" الرئاسة و يهدد كامل الصرح!؟

و كيف يمكن ان تقف المؤسسات شبه مكتوفة بسبب "الانقسام السياسي" و تعجز عن لجم جموح هكذا رئيس و رد خطره!

فالكونغرس اغلبيته الجمهورية حالت دون محاسبة الرئيس، و غلّبت مصلحة حزب علي مصلحة الدولة!

احاديث ترامب المتعددة عن سيادة القانون و النظام يقصد به سيادة نوع من السلطوية يجعل منه امبراطواراً كصديقه بوتين و كرئيس كوريا الشمالية، و لم يقصد بها اطلاقاً سيادة حكم القانون بالمفهوم الديمقراطي..

ترامب يبدي انزعاجه من تفشي الاضطرابات و الشغب و الجريمة و يحاول ان يبرر بذلك اطلاق يد الشرطة و نشر الجيش، و يستغل المخاوف الشعبوية و هواجس العامة، بينما في اوضاع سيادة حكم القانون و القيم الديمقراطية فان حياة الانسان مقدمة علي كل شئ و لا تبرر اي حالة مهما كانت مصادرة حق إنسان في الحياة.. بل وصل الحد باغلب الدولة الديمقراطية لالغاء عقوبة الاعدام نفسها من نظامها القانوني و تدابيرها العقابية ..

و في النظام الديمقراطي كذلك فان حريات الناس "حرية الانسان و الشعوب" و حرياتهم الشخصية و حقهم في عدم انتهاك خصوصياتهم..الخ مقدمة علي ما عداها و لا تجوز مصادرتها و التغول عليها إلا وفق تدابير دستورية و قانونية، اي بموجب إعلان طوارئ توافق عليه السلطة التشريعية المنتخبة و لفترة زمنية محددة و بسبب ظرف سياسي خارجي -حرب أو طبيعي يوجب اتخاذ تلك التدابير، و بحراسة السلطة القضائية و اشراف المحكمة العليا و مشاركة نيابة عامة مستقلة بسلطات شبه قضائية.. فلا يجوز مصادرة حق الناس في التجمع و التنظيم و الاحتجاج بحجة التخريب أو ما عداه و علي السلطات ان تقدم من ثبت قيامهم بالتخريب الي المحاكم و بالادلة الدامغة و ليس بمجرد تهم تُلَفّقْ كيفما اتفق أو بدعاية اعلامية! 

لقد تغول ترامب علي اجهزة القانون، فعين نائب عام ضعيف امامه، و عزل مدير الشرطة الفيدرالية FBI و عين احد العناصر الموالية له شخصياً! و تمكن في عهدته من تعيين ثلاثة من قضاة المحكمة العليا و هذا لم يتأتي حتي للرؤساء الذين حكموا دورتين !!

لقد كاد ترامب ان يحول الادارة الاميركية الي اوتوقراطية "جهاز تسلط" مثل تلك التي تنتشر في دول العالم الثالث و الصين و روسيا؟

سقوط ترامب في انتخابات 2020م يمثل مناسبة لاعادة بعث روح الدولة التي ملكها القانون و ليس ملكها فرد، ترامب كان بسبيل تحويل اميركا لمملكة و ابناءه و بناته و اصهاره الي امراء!! 

كما انه بدأ يسن طريق للافلات من العقاب للمحيطين به تمهيداً لينتفع به مستقبلاً لكن مع سقوطه الحاسم يجب و اتوقع ان تجري ملاحقته قضائياً عن التعاون مع الروس للعبث بالنظام السياسي و الدستور الاميركي و عن التهرب الضريبي اضافةً لانتهاكاته الجنسية و تحرشه بعدد من الفتيات و غير ذلك من جرائمه و الاعيبه الخطيرة.. فمن السخرية ان يزعم شخص لا يدفع الضرائب و لم يؤدي الخدمة العسكرية انه من سيجعل الدولة "عظيمة مجدداً" بل و اعظم مما كانت عليه في اي وقت!

آخر هفواته رفضه الاعتراف بنتائج الانتخابات الاولية في سابقة جديدة في السياسة الاميركية! فلأول مرة يكون الانتقال ملئ بالعراقيل و ليس سلساً، فالاميركان الذين طالما فخروا بارثهم الانتخابي و تقاليد و اعراف تداول السلطة "قواعد غير ملزمة و غير مكتوبة" بما فيها تقليد "البطة العرجاء" للرئيس المنصرف تفاجأوا برئيس اراهم كيف انه يمكن ان لا تعرف البطة انها عرجاء و لا تعترف انها بطة أصلاً!

ففريق الرئيس المنتخب لم يتمكن من الحصول علي الميزانية الموضوعة "يحصل فريق الرئيس الجديد علي ميزانية مقدرة اعتباراً من صدور النتائج كما يحصل الرئيس الجديد علي ذات تقارير المخابرات و الأمن التي يحصل عليها الرئيس".. و رفضت ادارة الخدمات العامة تسليم تلك الميزانية انتظاراً لنتائج طعون فريق الرئيس الخاسر! هذا الوضع يشير لأن هذه الدائرة الحكومية لا تملك قرارها و خاضعة بالكامل لهيمنة الرئيس! و هي ادارة يفترض فيها الصفة الاعتبارية و عدم الانحياز لشخص و إن كان الرئيس.. 

تشكيك الرئيس "المنصرف" في النتائج و حديثه المتكرر عن تزوير و سرقة للانتخابات يمثل "اتهاماً" و تشكيك في جهاز الدولة و ادارتها لا يليق ان يصدر عن رئيس و يستحق كذلك ان يحاسب عليه. 

محاكمة رئيس الولايات المتحدة عن جناياته و جرائمه و مخالفاته تمثل اعظم ترميم لمبادئ الولايات المتحدة و لقاعدة سيادة القانون و لفلسفة "ان القانون في اميركا هو الملك" و إن القانون يعلو علي الجميع.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم ت...

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بين...

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانته...