قنابل "ود لبات" الموقوتة:
يفتخر الدبلوماسي "و الوسيط" الافريقي البروفسير محمد الحسن ولد لبات في سفره "القيم" السودان علي طريق المصالحة؛ بأنه استحدث مصطلح "المنظومة الدفاعية و الأمنية" و ساعد ذلك المصطلح حسب زعمه في التوصل لصيغة تفاهم بين اطراف الأزمة الوطنية التي اعقبت سقوط نظام البشير..
و رغم عدم استيعابي لقيمة ذلك المصطلح و اهميته في التوصل لصيغة التسوية و تقاسم السلطة تلك، إلا ان التسوية التي عمل عليها ولد لبات و التي اسفرت عن شراكة في المستوي السيادي و التنفيذي عبر تقسيم السلطة الانتقالية دستورياً الي مكونين (مدني و عسكري) انطوت علي عدة الغام و قنابل موقوتة بدأت بالتفجر بمجرد مغادرة الوسيط للخرطوم و أكبر تلك القنابل الموقوتة و الذي لم يتفجر بعد هو قنبلة "المنظومة" نفسها ..
فالسلطة التي تولدت عن تلك الصيغة و التسوية ولدت منقسمة، هذا الانقسام الذي كان يفترض في الصيغة ان تقود الي معالجته لتسفر بعد امد قصير عن حكومة "موحدة" ليس فعالاً في هذا الاتجاه انما كانت نتيجته المنطقية حكومة مستمرة في الانقسام الي شطرين يضمر كل قسم الشر للآخر..
و لأن "المكون العسكري" هو الذي يحتكر القوة و الأفضل تنظيماً بحكم طبيعة عمله و طبيعة علاقته بالدولة و بحكم سيطرته علي قسم كبير من ميزانيتها؛ فهو يمثل تهديد كبير للانتقال الديمقراطي ..
و برغم تطميناته التي ظل يبعث بها إلا ان هناك جملة من المخاوف المنطقية تبقي شاخصة..
فأول رئيس "بعد التغيير" لأعلي هيئة عسكرية Chief of staff نشر له تسريب و هو يتحدث عن صلته بالحركة الاسلامية و كيف انه ينتمي لها منذ ان كان ضابط صغير "ملازم" و إن مسؤوله "أميره" هو رئيس الحركة الاسلامية "شيخ الزبير.."!!!؟
كما نعرف ان الحركة الاسلامية سيطرت عبر "التنظيم العسكري الخاص بها" علي مفاصل المؤسسة في السابق و إن تغلغلها فيها كان عبر بوابة الاستخبارات العسكرية "عريش المجاهدين"!!
هناك تطورات وتغييرات حدثت في "المنظومة الدفاعية و الأمنية" لكن تلك المنظومة بطبيعتها لا تتحدث كثيراً عن عملها، و علي أي حال فان التغييرات التي ظهرت للعلن تبدو شكلية و سطحية و قليلة، عودة القوات المسلحة للتنظيم الاداري قبل 2010 و الغاء نظام الأركان المشتركة و العودة لترتيب المناطق العسكرية، تغيير جهاز الأمن لمسماه "ادارة المخابرات العامة" .. هذا كل شئ؟! ولا حديث عن ادماج مبدأ سيادة حكم القانون في قلب المنظومة الدفاعية و الأمنية "بما فيها الشرطة" و تبني قواعد القانون الدولي الإنساني و حقوق الانسان في قواعدها الحاكمة و حتي قواعد اشتباكها، و لا حديث عن إعادة تحديد لمفهوم الأمن القومي السوداني بعد عقود حكم البشير و حاضنته من الإسلاميين و الذين حولوا السلطة و البلد بأكملها الي بؤرة ملتهبة تعج بالجواسيس و المتخابرين مع دول إقليمية و أجنبية بعيدة من ادني سلم الحكم و النفوذ و حتي مكتب الرئيس!
ما لم يفهمه ولد لبات و لم يفهمه اطراف الازمة السودانية أنفسهم و خصوصاً "المكون السياسي و الحزبي" هو ان القطيعة بين الاحزاب "خصوصاً أحزاب اليسار و فصائل الناشطين السياسيين" الذين يجمعهم ائتلاف قحت "الحاكم" حالياً بعد طول بقاء في صف المعارضة من جهة، و الجيش من جهة ثانية؛ بلغت مراحل متأخرة للغاية و هي قطيعة نفسية في المقام الأول..
هذا هو السبب الرئيسي لتعذر التوافق الذي اعقب الاطاحة بالبشير و حلفاءه، و السبب الرئيسي لحالة الانقسام التي يشهدها المسرح السياسي و الوطني.
الاحزاب "و فصائل الناشطين" و بسبب ما اتبعه نظام "الاسلامويين" بقيادة البشير و محاولة اختراقهم للقوات النظامية و تحويلها الي تابع للاخون و "الكيزان" تخلقت لديهم "الاحزاب" قناعة بأنها كذلك و سلموا بأن الواقع هو انها اضحت مليشيا حزبية و ليست قوات وطنية محترفة..
بينما قيادات و مراكز مهمة في تلك القوات تصر علي ابعاد المدنيين من كل ما يتصل بصناعة القرار الدفاعي و العسكري و الأمني بما في ذلك السياسات الدفاعية و الأمنية، و طبيعي ان تدعم جيوب الاسلامويين في المنظومة الأمنية و العسكرية هذا الموقف علي أمل ان يحصن ذلك بقايا نظامهم و يمكنهم من إعادة تقييم موقفهم و ترتيب صفوفهم للتقدم ثانيةً نحو السلطة و الحكم ..
و بطبيعة الحال كلا الفريقين يجانبه الصواب، فسياسات الاخوان و نظام الاسلامويين البائد حيال الجيش و المنظومة الأمنية بفرضية نجاحها فانها تعكس في المقام الأول فشل السياسيين "الاحزاب الاخري" فهي لم تتصدي بشكل مناسب لهذه التوجهات و السياسات و المواقف و لم تكافحها بالقوة اللازمة.. و استكانتها و تسليمها طيلة الثلاث عقود لا يمكن تصحيحه في ثلاث ساعات و لا ان تطالب بتغييره في ثلاثة أشهر و لا ثلاثة سنوات حتي..
لثلاثة عقود كانت السياسات العسكرية و الأمنية في ذيل اهتمامتهم اسوة بالسياسات الاقتصادية و كل ما يشغل بال المواطن و الوطن بل انغمسوا في امور تتفاوت بين مواجهة تلك المؤسسة في ميدان القتال "تجربة التجمع الوطني الديمقراطي" في مواجهة مفتوحة و عداء مكشوف؛ الي الانغماس في مصالح شخصية و خاصة او حزبية ضيقة و ترك الوطن و مؤسساته نهباً للخراب!
و بالتأكيد مسلماتهم تلك لم تكن صحيحة و إن افترضنا صحتها ما كان عليهم التسليم بها و الخنوع لها بل مقاومتها بكل السبل لأن تصحيح اوضاع المؤسسات القومية من صميم عمل السياسي، و اقول ليست صحيحة لأن الاجهزة العسكرية وظيفتها تحتم عليها العمل مع الامر الواقع و مع الحاكم الفعلي و ليس مناهضته دون اجندة وطنية "فشل الساسة في توفيرها" و لأن المؤسسة العسكرية بطبيعتها "متنوعة التشكيل و قومية الانتماء و لو علي مستوي الافراد في الرتب الادني" كما لها تاريخ ضارب و تقاليد و ارث يجعلها عصية علي التجيير لصالح حزب سياسي أو جهة عصبية، فهي كمؤسسة لها إرث اقدم و ارسخ من إرث الاسلامويين انفسهم.. لا نريد أن ندفن الرؤوس في الرمال و نقول إن المؤسسة العسكرية لم تتضر من حكم الاسلامويين "بل هي من أكبر المتضررين" أسوة بكل المؤسسات الوطنية، لكن في الختام هذا لا يبرر مناصبتها العداء بالجملة أو الكيد لها أو السعي إلي فرض تبعية بديلة لتبعية "الاخوان- الكيزان".. و هذا عمل سياسي يتطلب من الأحزاب التعامل مع قضايا الأمن الوطني بمسؤولية، و إيلاء هذا الأمر حقه، و هذا يقتضي أن تكون تلك الأحزاب أحزاب وطنية في المقام الأول و ليست جيوب أسرية أو عائلية أو شللية، لا بد أن من تأكيد صفة قومية تلك الأحزاب و تمثيلها لأوسع طيف وطني..
بالمقابل علي العسكريين التواضع و الإقرار بأن السياسات الدفاعية و الأمنية في المستوي الاعلي منها "الخطط و الرؤية القومية" هو شأن سياسي في المقام الأول و هو "شغل الحكومة المدنية" و ليس عمل العسكر، و المحظور هو التدخل في المستوي التنفيذي العسكري و الأمني، أي يحظر علي المدنيين التدخل في وظيفة و عمل و اختصاص القائد العام و قائد الأركان و مدير الشرطة و مدير المخابرات فما دون أما ما هو اختصاص وزير الدفاع و وزير الداخلية فهو عمل مدني صميم فهو عمل سياسي في المقام الاول و الجيش و الشرطة كسائر اجهزة الدولة "الخدمة العامة" من قضاء و دبلوماسية و خدمة مدنية لا شأن لها بالسياسة انما عملها و تخصصها تنفيذي صرف ..
هذا الاشتجار "و سوء التفاهم"، كان من الممكن تجاوزه لو تواضع الجانبان الحزبي و العسكري علي حكومة كفاءات وطنية مستقلة مشهود لها بعدم الانحياز أو المحاباة و معروف عنها الدراية و الدربة و قوة الشخصية، لكن مع الأسف كلا الجانبان اهملا هذا المقترح لشئ في النفوس..
علي كلٍ يجب تسوية هذا الاشتجار لنزع فتيل هذا اللغم الذي أعيا ولد لبات فتركه مغلفاً دون حل و الا فإنه قد ينفجر في أي وقت ما قد ينسف مجمل ما تحقق و ينسف امال الانتقال نحو وطن مستقر و مزدهر..
أحد ابرز الاشكالات التي تواجه الحكم الانتقالي حالياً هو اشكال شركات المنظومة و اذرعها الاقتصادية و التجارية!! تلك المنظومة و خصوصاً الجيش و الأمن و الدعم السريع ايضاً يحتكمون علي شركات بموارد و إمكانات و اصول مهولة و تنشط في مجالات مختلفة من انتاج و استيراد و توزيع القمح الي تصدير اللحوم و الي امتيازات تعدين و تصدير الذهب..
و رغم أنه و ابتداءاً ليس من عمل و لا شأن القوات النظامية العمل التجاري و القيام بأنشطة اقتصادية إلا أن هذه ليست المشكلة في ذاتها "فإن سلمنا بوجود مؤسسات عسكرية عرف عنها القيام بأدوار اقتصادية و تجارية ضخمة كالجيش المصري و الذي دائماً ما يستخدم كنموذج علي أن ما تفعله المنظومة في السودان ليس بدعةً! و بالمناسبة فإن مصر و استجابة لضغوط المانحين شرعت و عبر صندوق -تحيا مصر- في التخلص من هذه الشركات العسكرية.." فإن المشكلة التي تبقي قائمة هي أن السودان كان و خلال ثلاثة عقود يتبني سياسة سوق حر ابرز ملامحها نهج خصخصة شرسة تم بموجبها التخلص بالبيع لعدد من كبريات المؤسسات و الهيئات المملوكة للدولة و طالت الخصخصة هيئات تقوم بأعمال إدارية أكثر من كونها تجارية كالنقل الميكانيكي و النقل النهري إضافة لمؤسسات تجارية ذات طابع وطني كشركة الطيران "سودانير" التي تتمتع بلقب الناقل الوطني و شركة السكك الحديدية، بل و اتجهت الدولة للتخلص من هيئة الطيران المدني و لولا تدخل العقلاء لتمت خصخصتها ايضاً! فكيف يستقيم لدولة تتخلص من مؤسسات القطاع العام الاقتصادية "المدنية" أن تسمح بامتلاك المؤسسة الدفاعية لشركات و مؤسسات اقتصادية؟!
ثم و هذا هو الأهم "و الأخطر" و هو كيف لدولة تقبع في ادني مؤشرات الشفافية و المحاسبة و المنافسة الحرة أن تسمح لمؤسسات "أمنية" قابضة و مهيمنة أن تمارس عمل يقوم علي المنافسة! من يستطيع أن ينافس الجيش و الأمن و الدعم السريع؟ و كيف تقنع مستثمرين أجانب ليضخوا استثمارات بالعملات الصعبة في بيئة أعمال تنشط فيها الجهات العسكرية و الأمنية المدججة بالسلاح و النفوذ؟! و لادارة تحمل مسمي "الأمن الاقتصادي" أي امن السوق؟! صلاحيات و سلطات بلا حدود! و يمكن ان تعصف بكل شئ في أي وقت؟ و تملك اذرع و واجهات "شركات" تنشط في السوق باعفاءات و امتيازات لا تتوافر لمنافسيها! و الكسب و الربح ليس هدفها ولا من اختصاصها انما تسعي لتمرير اجندة تخدم السلطة في السابق و لا احد يدري من تخدم اليوم؟!
وجود مثل هذا القطاع الاقتصادي الدفاعي لا يعني أن الدولة تنحاز للقطاع العام و حسب و أنها تتبني نهج اقتصاد الدولة "الاقتصاد المدار بواسطة الحكومة و ليس بآلية السوق الحر" إنما تنحاز كذلك لقطاع سري؟! قطاع لا أحد يعلم قدراته و لا أحد يراجع أو يدقق حساباته و لا أحد يستطيع مقاضاته أو مجرد التظلم منه!؟
فبراير ٢٠٢١م
تعليقات
إرسال تعليق