بعد مضي مئتا عام علي غزو محمد علي باشا حاكم مصر للاراضي السودانية (١٨٢١م) عادت مصر لتتصرف في السودان و كأنه اراضي تحتلها !!
علاقة مصر بالسودان تاريخياً كانت علاقة غير مفهومة، و حتي في عصرنا هذا بقيت غير مفهومة !
تاريخياً عندما بدأ الاتصال كانت مصر التي خرجت من تحت الاحتلال الفرنسي (و الفضل في ذلك الخروج يعود للعلاقات الدولية المتوترة بين فرنسا و انجلترا) و استفادت من ذلك الخروج اذ اصبحت "شبه مستقلة" عن الاستانة العثمانية"، فحاكم مصر يحكم اسمياً تحت مظلة السلطان التركي لكنه يتمتع بنفوذ وكيل عن السلطان في المنطقة (فلسطين و سوريا و الحجاز) وكيل يرتقي في لحظات ضعف الاستانة ليبلغ درجة الند!
بهذه الصفة سعي مؤسس مصر الخديوية للتوسع جنوباً بحثاً عن موارد يقوي بها موقفه الاقتصادي و العسكري (الذهب و الرجال).
برغم ذلك ظل السودان طيلة عقود علاقته بمصر منطقة مجهولة حتي لحكامه "المفترضين" فمحمد علي باشا زار السودان مرة واحدة فقط في ١٨٤٠ تقريباً، اما الذين خلفوه فمعظمهم لم يزوروا السودان قط! اما كبار الموظفين في الادارة المصرية "الحكومة" و صغارهم فكانوا يعتبرون النقل للعمل في السودان بمثابة نفي، و دليل علي سخط رؤساءهم عليهم و سعيهم للتخلص منهم، و لذا غالباً ما يقضون فترة عملهم في السودان يتذمرون و يرتكبون تجاوزات و حماقات (تسببت تلك التجاوزات في اندلاع الثورة المهدية).
و حتي بعد ان تخلصت مصر من ارث الخديوية و تخلصت و تخلص السودان من قبضة الانجليز فان شئ لم يتغير في منظور حكومة القاهرة نحو الخرطوم !!
لا تزال مصر تدار بنفس العقلية الخديوية و لا يزال كبار المسؤولين في السودان يعتبرون انفسهم في خدمة الخديوي كالذين انعم عليهم الخديوي بالقاب الباشوية و الباكوية من السودانيين !
ظلت القاهرة دوماً تعتبر الخرطوم منطقة نفوذ سياسي خالصة لها؛ و مع ذلك لم تكلف الحكومة المصرية نفسها ابداً مشقة فهم الصعوبات و التحديات التي يعيشها السودانيين و تمزق مجتمعهم و تهدد دولتهم .. كما لم تكلف "النخبة المصرية" نفسها مشقة استكشاف الفروقات و التباينات بين الدولتين ..
لم يخطر ببال حكام مصر و نخبها ان الفروقات التي سادت عندما كانت سلطة واحدة تحكم القطرين لا تزال سارية.. و ان ما يتردد في الملتقيات الدبلوماسية من احاديث علي شاكلة (شعب واحد و بلد واحد و نيل واحد) لا يعدو كونه حديث "تطييب خواطر" لا يفيد شئ في علاج مشاكل العلاقات بين الدول !! و لذا لم تفهم مصر لماذ اختار السودان الاستقلال في ١٩٥٥م و لماذا ظلت الاوضاع فيه تتدهور و حالة عدم الاستقرار تسود - بفعل التدخلات المصرية السالبة "دعم الانقلابات العسكرية و دعم حركات المعارضة المسلحة" حتي بلغت الاوضاع الامنية فيه مرحلة متأخرة و تفككت اقاليمه (انفصال الجنوب) و مع ذلك لا نزال نسمع ديباجات "أمن السودان من أمن مصر"!!
مصر تدير علاقتها بالسودان عبر ادارة المخابرات العامة منذ ١٩٩٥م؛ تاريخ محاولة اغتيال الرئيس الاسبق مبارك؛ و ليس عبر وزارة الخارجية كما هو حال العلاقات الطبيعية، و يبدو ان هذا الوضع يلائم القاهرة اكثر؛ فالأجندة الامنية و المخابراتية هي الغالبة علي علاقتها بالخرطوم.. و ظلت و لعقود طويلة جداً تفعل ذلك، و تركز علي الاجندة الأمنية و علي "رجالها" في الخرطوم..
من الواضح ان لمصر عناصر كثيرة منتشرة و متغلغلة في جهاز الدولة "و ليس وسط الاحزاب فقط" من اعلاه الي اسافله.. و واضح جداً ان من بين رجالها أولئك /الباشوات (مدير المخابرات السابق قوش و وزير الدفاع ابنعوف و رئيس الاركان عبدالمعروف) ...
اقامة هؤلاء (القادة) في مصر بعد سقوط النظام الذي كانوا من اعمدته من اقوي الأدلة علي ذلك .. و ليس الامر قاصر عليهم، فهناك غيرهم كثر لم "يحترقوا" بعد !!!
من المتعارف عليه في كل الانظمة و الحكومات و الدول ان من يشغلون مناصب عالية الحساسية يخضعون لتدابير خاصة حتي لا يتم استغلالهم.. و تهديد الامن الوطني، من تلك التدابير انه لا يسمح لهم بالسفر للخارج الا باذن خاص، و لا يسمح لهم بالعمل في القطاع الخاص، كل ذلك لأمد زمني يتراوح بين عدة شهور و عدة سنوات حسب حساسية المنصب الذي يشغله أي منهم. فمن منح المقيمين بمصر من شاغلي ارفع المناصب العسكرية و الأمنية سابقاً الإذن بالمغادرة؟ أكيد منحهم الشخص الذي استلم مهمة رعاية الشؤون المصرية بعدهم !!!
يناير ٢٠٢٣م
تعليقات
إرسال تعليق