الجيش جيش السودان .. الجيش ما جيش كيزان، شعار جميل رفعه المتظاهرين يوم 6 ابريل و الي يوم 2 يونيو 2019م، و إتضح انه يجب الا يبقي مجرد شعار و هتاف انما يتحول الي برنامج عمل يطبق حرفياً لاعادة بناء و تأهيل المؤسسات النظامية للدولة و اعادة صياغة عقيدتها و تقاليدها و ادبياتها.
ففض اعتصام القيادة في 3 يونيو أثبت ان نظام الكيزان و البشير برغم سقوطه فانه خلف تركة ثقيلة تتكون من مؤسسات قابلة للتدجين و الاستغلال و قابلة لأن ترفع سلاحها ضد الشعب و ضد المواطن! مؤسسات يتعامل افرادها و كأنهم جنود احتلال! و تنظر للمواطن و كأنه عدوا!!
طيلة ثلاثين عاماً كان الجيش و الشرطة و الامن مجرد جناح عسكري للحركة الاسلاموية! و وصلنا درجة ان يقول رئيس "سابق" لاركان الجيش Chief Of Staff في معرض دفاعه عن نفسه "انا انتمي للحركة الاسلامية منذ ان كنت ملازم"!!
يتحتم علينا انهاء هذا الوضع الشاذ.. منذ الاستقلال 1956م تمت سودنة المناصب و لكن لم تتم سودنة عقلية و نخاع معظم المؤسسات بما فيها المؤسسات النظامية و الأمنية؛ اذ ظلت علي الدوام تنظر للمواطن علي انه (اهالي) و هي ذات التسمية التي كان يطلقها عليه المستعمر، كما ان في عرفها ان تصف المواطن بهذه اللفظة (مواطن) كأنها سُبة و هذا عين ما ورثته من الادارة الاستعمارية و القيادة الاستعمارية للاجهزة العسكرية و الأمنية !!
ثم اننا نعلم يقيناً ان انقلاب 30 يونيو 1989 تم باختراق سياسي و حزبي كبير و عميق لمؤسستنا العسكرية، و ان الجبهة الاسلامية التي نفذت الانقلاب كانت تملك اجهزة اتصال عسكرية متقدمة تضاهي تلك التي كان يملكها الجيش! و إن عناصرها في "ساعة الصفر" عطلت شبكة اتصالات الجيش و شغلت شبكة اتصالات التنظيم "فأي شبكة تعمل الأن"؟!
كما نعلم حسب افادات الانقلابيين انفسهم ان هناك عناصر مدنية من تنظيم الجبهة الاسلامية ارتدت الزي العسكري لحظة الانقلاب و شاركت في العملية بما يمثل جريمة انتحال شخصية اضافة لجريمة تقويض النظام!
فهل شرع الجيش في التحقيق في تلك الملابسات؟! و نقصد بذلك تحقيق فني و مهني مستقل عن التحقيقات القضائية و العدلية-الجنائية إن كانت الاجابة نعم؛ اين وصل التحقيق، و إن كانت بلا؛ فماذا ينتظر؟
بتوقيع الاتفاق السياسي بين قادة الجيش بعد إسقاط نظام الانقاذ و بعد حادثة فض الاعتصام المشؤومة و افراغ ذلك الاتفاق في "وثيقة دستورية" تشبث قادة المؤسسة النظامية في ذلك الاتفاق بقبضتهم علي الملفات العسكرية و الأمنية بحجة ان نظراءهم قادة احزاب سياسية لا يمكن أن يتم "تمكينهم" من وضع يدهم علي تلك الملفات "الحساسة".
يلزمنا ان نقر هنا بأن احزاب "المعارضة" السياسية التي تحولت لتصبح حاليا ائتلاف "قحت" تعاطت لثلاثين عاماً مع الاجندة العسكرية و الحربية بطريقة قاصرة و اسلوب غريب، اسلوب طبّع لانفراد الاسلاميين بالمؤسسة النظامية، و انحصرت "طريقتهم و اسلوبهم" في "اشعار" و ادبيات معارضة من شاكلة "يانورا العسكر مأجورة"!، و حتي الأن لم تنتقل لمربع التعامل باحترافية سياسية و إن تولي هذا الملف حقه و مستحقه.
"علاقة طبيعية بين الاحزاب و المؤسسات العسكرية و النظامية هي امر مطلوب بالحاح في هذه المرحلة، علاقة قائمة علي التزام كل جانب بحدود اختصاصه، لذا ينبغي ان تسند الاحزاب ملف السياسات العسكرية و الأمنية لمختصين فيها يعرفون حساسية هذا الملف"..
نجح العسكريين في تمرير تلك المزاعم و طي هذه المسألة برغم ما ينطوي عليه من تحديات كبيرة، فان كان قادة الاجهزة العسكرية يرون ان من غير المقبول ان يتدخل حزبيون في عملهم و يطّلعون علي "اسرارهم"؛ فان من غير المقبول و في ظل ظروف ثورة شعبية انهت اوضاع شاذة سياسياً و عسكرياً و امنياً ان يتم اقصاء الشعب الذي قام بكل العمل الضخم وحده و قدم التضحيات ايضاً!؟ انما يستحق ان يتم اطلاعه اولاً بأول بكل التغييرات التي تمت بل و من حقه كذلك ان يتم اشركه في عملية التغيير و مناقشته في كل الخطوات..
حتي الأن لايبدو ان هناك تغيير كبير يحدث، فلثلاثين عاماً كانت مداخل الانتماء لسلك الضباط خصوصاً و للأجهزة الاستخبارية بيد الاسلامويين ما خلق انطباع لدي الجميع ان هذا وضع طبيعي، لثلاثين عاماً كان تنظيم المؤتمر الوطني و الاجهزة النظامية اقرب ما يكونان كوجهين لعملة واحدة!
كيف ستتم معالجة ازدواج الولاء لدي ضباط القوات النظامية (الولاء للمؤسسة العسكرية التي يفترض انها قومية و الولاء للتنظيم الذي نسبّهم لتلك المؤسسة و غرسهم فيها كما يغرس الخنجر المسموم في الجسد)!
هناك كذلك حالة قوات الدعم السريع و التي مثلت أزمة حتي في عهد النظام المخلوع!
كيف ستتم معالجة تلك الحالة؟!
صحيح ان هناك تقدم حصل بأن تم وضع تلك القوات تحت امرة قائد القوات المسلحة و امرة قانونها و اصبح قائد الدعم السريع ممثلاً في القيادة العسكرية و السيادية ايضاً لكن هل يكفي ذلك؟ بالتأكيد لا
كما ان هناك حالة قوات الحرس الجمهوري و التي عند تأسيسها كانت قوة كبيرة شبه مستقلة تقوم بمهام الحرس الرئاسي كما تشارك في كل العمليات الحربية و القتالية، لكن في وقت ما تم تقليصها الي (لواء)!
تبقي الحاجة قائمة لأن يتم إعادة هيكلة كاملة للمؤسسة العسكرية و ادماج كل تلك القوات في المنظومة العسكرية بحيث تصبح جزء من المؤسسة القومية فعلاً و ليس مجرد قول علي طرف اللسان و أمنيات!
ادماج بحيث تصبح هناك طبيعة واحدة و صبغة مشتركة و قانون و نظم و تقاليد و حقوق و واجبات واحدة تنطبق علي الجميع..
هذا يتطلب كذلك التأهب لبرنامج تسريح كبير كالذي اتُبع بعد معاهدة نيفاشا خصوصاً و إن البلاد مقدمة علي "اتفاقيات" سلام مع حركات متعددة لكل منها فصيل مسلح ما يقتضي ترتيبات أمنية مشابهة..
هذا الوضع العسكري المُعقد يتطلب استراتيجية جيدة الاعداد و متكاملة تتحسب لكل الاحتمالات بوضع ترتيبات بديلة عند الضرورة.
يناير ٢٠٢٠م
تعليقات
إرسال تعليق