عندما نتحدث عن السياسة و الانتخابات، ينصرف قصد المتكلم و ذهن السامع الي الانتخابات المؤدية الي أحد المباني الثلاث المطلة علي النيل (القصر الجمهوري أو مجلس الوزراء أو البرلمان -المجلس الوطني/مجلس الشعب).. تلك المباني التي يظن من يحتلونها أنهم يحكمون و يتحكمون في بقية أرض السودان و شعبه!
تجربة انتخاب مشرعي مجالس الولايات في العهد البائد لم يحملها حتي اهلها علي محمل الجد!
فيما انتخاب الولاة (حكام الولايات) و مشرعيها لم يسمح لها (المخلوع) ان تتطور لأنه يري فيها انتقاص من سلطته في الحكم و اشراك في تفرده الانتخابي و اشراك في (شرعيته!)..
أما انتخابات المحليات و البلديات فهذه لا يذكرها احد من الساسة و لم تنعقد انتخابات محلية من قبل في تاريخ السودان علي حد علمي؛ و إن كنت مخطئاً صوبوني.
و علي الاقل لم تنعقد انتخابات محلية - بلدية في العقود الماضية بما فيها فترات الديمقراطية أو شبه الديمقراطية (الفترة الانتقالية بعد اتفاق السلام الشامل 2005-2011م) ..
في حين ان البلدية/المحلية/ أو المعتمدية هي نواة السياسة و الحكم و ادارة الشأن العام، فهي التي تحول السياسات العليا للدول الي نتائج علي الأرض و ثمار في متناول الفئات الشعبية اقتصادياً و اجتماعياً و ثقافياً .. الخ
و في كل الديمقراطيات الراسخة و النظم السياسية الانتخابية المستقرة يمثل الانتخاب لوظائف و مناصب البلديات هو هو اول درج علي سلم الترقي السياسي، و من النادر ان يشغل شخص منصب رئيس دولة أو عضو مجلس نواب أو شيوخ دون ان يكون قد تدرج في سلك الحكم و السياسة المحلية (مجالس البلدية و منصب عمدة مدينة كبيرة كانت أو صغيرة).
في اعتقادي الشخصي ان احد أهم اسباب فشل اتفاق نيفاشا في تحقيق انتقال و تحول ديمقراطي كما وعدت به هو اهمالها للحكم المحلي و تركيزها علي مستويات السلطة العليا في المركز (الحكم الفيدرالي) و في الولايات..
مجالس البلديات هي الحكومات الفعلية، و رئيس البلدية - العمدة هو الحاكم الحقيقي بالنسبة للمواطنين في أحياء سكنهم و مناطق عملهم حيث يعيشون و يجابهون مشاكل الحياة المختلفة..
حالياً نحتاج في بلادنا لاحياء البلديات/المحليات و تفعيل نشاطها بعد ان تحولت خلال العقود الثلاث الي وحش جبايات و آلة تسلط، نحتاج الي أحياء واجباتها في مسائل التعليم، و الصحة، و التموين، و النظافة، و الطرق، و المصارف، و المواصلات، و سائر مشاريع البنية التحتية الهندسية و من الممكن ان ترتقي لمستوي مشاريع الاسكان، و سائر الخدمات و مشاريع التنمية..
علاوة علي كل ذلك فان الانتخابات البلدية و تجربة الحكم المحلي هي أفضل طريقة لتعزيز حكم القانون و الحكم الرشيد و الشفافية، و اسلوب عملي تطبيقي لتقوية النهج الديمقراطي و ثقافته و الثقافة الانتخابية و تحقيق اكبر قدر من المشاركة السياسية و عزيز التداول السلمي للسلطة في أوسع نطاق...
و بالنسبة للسودان خصوصاً يكتسب الحكم المحلي الديمقراطي و المنتخب أهمية استثنائية لأنه يمكن ان يحدث نقلة في مفهوم الادارة الاهلية؛ ذلك الاسلوب الذي ابتدعته الادارة الاستعمارية الانجليزية عبر استخدام القبائل و زعماءها خصوصاً لتقوية قبضة الادارة المركزية، لقد حقق ذلك الاسلوب هدفه و الغاية منه علي اكمل وجه للمستعمر (لأنه مثل نوع من المشاركة في الحكم و اتخاذ القرار) فيما تحول ذات الاسلوب الي عقبة في عهد الحكومات الوطنية.. وصل لدرجة المواجهة الشاملة بين جهاز الحكم (الرسمي) و الادارة (الاهلية) و اصبح تدمير تلك الادارة الاهلية و تفكيك بنيتها الإجتماعية غاية استراتيجية للحكومات في بعض العهود كما ان تلك الادارة ردت بان تعمدت أضعاف الحكومات لاثبات انه لا غني عنها في الحكم و الادارة..
تبني ديمقراطية انتخابية في المستوي المحلي (مجالس البلديات-المحليات و عموديات المدن) من الممكن ان يطور إرث الادارة الاهلية و يخلصها من عيوبها الجينية المتمثلة في اساسها القبائلي و نظام توريث السلطة المعتمد فيها من الأب الي اكبر الابناء الذكور.. كما يساعد المجتمعات لتشارك عبر المساءلة الإجتماعية و عبر التصويت لاختيار حكامهم.
........................................
سبتمبر ٢٠٢٠م
تعليقات
إرسال تعليق