واجهت حكومة انقلاب الانقاذ في اول عهدها ازمة اقتصادية و معيشية حرجة (تمثلت في شح السلع الاساسية و الغذائية) و هي ذات الازمة التي لازمت نظام نميري في اخريات سنواته و حكومة الديمقراطية الثالثة (حكومات رئيس الوزراء الصادق المهدي) طيلة عهدها -القصير.
تعاملت الانقاذ مع تلك الازمة بانتهاج سياسة مراوغة تمثلت في انتهاج سياسة تحرير اسعار بلا سقوفات و بلا طلب من البنك الدولي و ذلك لمجابهة الندرة و التخزين و الاحتكار و المضاربة و التهريب، ثم صاحبت تلك السياسة ايضاً نهج خصخصة تمثلت في التخلص من مؤسسات و اصول الدولة .. هذه السياسة حررت الدولة من بعض الاعباء ثم وفرت لها بعض الاموال لكن كل ذلك مثل حل في مدي قصير، و بثمن باهظ دفعته الشرائح الضعيفة "ذوي الدخل المحدود" اذا بلغت معدلات التضخم مستويات توقف مكتب الاحصاء عن حسابها و رصدها! و انهار الجنيه السوداني بمستوي تجاوز خانة الآحاد و العشرات و المئات و الآف امام العملات الصعبة، و احتالت السلطة علي ذلك بالتحول من الجنيه الي الدينار ثم العودة اليه لكن بالتخلص من الاصفار التي علي اليمين؟
بعدها واجهت الدولة مصير بئيس تمثل في اهتراء البنيات التحتية و عجز عن تسيير ابسط امورها و كان يمكن ان تنهار الحكومة من تلقاء نفسها لولا دخول امدادات النفط ثم (و هذا هو الأهم) توقف الحرب و دخول اموال الأمم المتحدة و المنظمات لانفاذ اتفاق السلام، كل ذلك منح الحكومة براح و سعة لكنها لم تستغلها حتي خرج نفط الجنوب بالانفصال و خرجت الامم المتحدة و المنظمات بطلب من الحكومة نفسها!
فواجهت ذات معضلة البدايات و قد بلغت من الكِبر..
ثم عندما واجهت الحكومة الانتقالية برئاسة حمدوك و قائد فريقه الاقتصادي "الاول" البدوي و الذين خلفوه "هبة و جبريل ابراهيم" لم تجد من حل لعلاج ازمة الندرة و الشح و الاحتكار الا بذات الاسلوب لكن فقط هذه المرة بوصفة و رعاية البنك الدولي!
ان الفشل في ادارة الندرة و ايجاد حلول لها (بخلاف الغلاء) يعني بالضرورة فشل في ادارة الوفرة كذلك عندما تحل!
ان الانفراج الذي يتبع سياسات التحرير (و الغلاء) قد يغري الاغرار بان الازمة قد وصلت الي خواتيمها لكل لا تلبث ان تعود و يطل رأسها بشكل و مظهر مغاير..
الفشل في ادارة الندرة يشير الي حقيقة وحيدة هي ضعف المؤسسات و ضعف التفكير السياسي و الابداع و الابتكار الاداري باختصار (ضعف القيادة السياسية).
لدينا ازمة في العقل السياسي الحاكم و غير الحاكم كذلك هي ازمة مستحكمة جدا فكل الساسة عندنا يعتقدون ان المشاكل كلها تحل بقوانين!
لو كانت كل الامور تحكم و تدار و تحل بالقوانين لما احتاج البشر حكومات و هيئات و مؤسسات و لإكتفوا بالمحاكم و الشرطة! و البرلمانات تكون لتشريع القوانين ثم تنفض الي ان تقوم حاجة لتعديلها او لسن قانون جديد!
فالقوانين نفسها كما تفوض سلطات تطبيقها للقضاة و انفاذ ترتيباتها للشرطة للتصرف و تفوض سلطة التقدير "السلطة التقديرية" في حدود القانون؛ هي تفوض سلطات تقديرية لكل الموظفين العموميين، و السلطة التقديرية هي السياسة و الحكمة و المقدرة علي حسن التصرف و هي الادارة بعينها، و ان كان من فوضت له سلطة التقدير لا يحسن التصرف و الادارة فحينها لن تجديه القوانين من لدن حمورابي و حتي احدث قانون بشري، كما لن تجديه شرائع الرب ذاتها!
مشاكل الاقتصاد و المالية العامة يحل قسم كبير منها بالسلوك الرشيد للدولة و اجهزة الحكم و المستهلكين، هناك ضمن مؤشرات قياس اداء الاقتصاد عدة مؤشرات تتعلق بالمستهلكين منه "مؤشر ثقة المستهلكين" .. و ان كانت اجهزة التخطيط و ادارة الاقتصاد من القوة و الحكمة فانها يمكن ان تنجح سريعاً في احداث تغييرات اقتصادية ضخمة بمجرد توجيه الرأي العام بما في ذلك موظفي الدولة، اما عندما تكون ادارة الاقتصاد ضعيفة فانها تلجأ للقرارات و القوانين و تظن ان تلك القرارات ستعلج لها المشكلة؟ هذا خاطئ و لن يحدث اطلاقاً.
السلطة الحالية بدأت بشرعية شعبية طاغية لكنها بددتها في التعويل علي حلول البنك الدولي و المساعدات الاجنبية، اذ لم تملك أي رؤية وطنية لادارة الشأن الاقتصادي، و فيما تقف عاجزة عن ادارة تدفقات المساعدات "مشروع ثمرات" حتي، و فيما تتعاظم مشاكل الاقتصاد لتضغط علي لقمة عيش المواطن فان شعبية تلك السلطة تتناقص بسرعة كبيرة و يوم ان تبلغ الصفر او تقترب منه فان كل ما قامت به سيذهب هباء.
ان الخلاصة المهمة هي ان من يفشل في ادارة الندرة و ازمات الشح في الموارد و السلع و الخدمات بلا شك سيفشل كذلك في ادارة الوفرة "هذا اذا حلت" لأن المضمون و الادوات واحدة فالعقل الذي يواجه الندرة هو نفسه الذي يعالج الوفرة و الرخاء و الادوات و المؤسسات هي هي كذلك، و اذا كان العقل ضعيف و رتيب و كانت المؤسسات متهالكة فان ازمة الندرة ستتموحر و تتقلب فقط و لن تزول اي ستتحول الي ازمة غلاء و ربما جوع و فقر "فقر دم اقتصادي" و اذا غيض الله للبلاد وفرة فان ذات العقلية و ذات المؤسسات ستبدد تلك الوفرة قبل ان يرتد طرف المجتمع اليه!
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
- سبتمبر ٢٠٢١م
تعليقات
إرسال تعليق