التخطي إلى المحتوى الرئيسي

خطاب العاصفة

                                                                                                                                                                                              في اللحظات الحاسمة من تاريخ الأمم والشعوب عندما يصبح مستقبل دولة أو شعب ما على المحك يصبح المستقبل رهين بكلمات وتصبح كل الأعين مسمرة إلي شفتي الزعيم بانتظار تلكم الكلمات ، ولكن إذا كان ذلك الزعيم متغرباً عن شعبه بفعل سياسات سلطته وجهاز بطشه تكون غربة الكلمات التي تخرج من شفتيه أمراً حتمياً ويعجز الزعيم عن قراءة والتنبؤ بطالعه وطالع شعبه لأنه لم يحسن قراءة التاريخ و لا قراءة الحاضر ... ولذا يفشل خطابه في تهدئة العاصفة وربما استفزها بما يزيد من قوتها، وفي اللحظات الحاسمة يكون كل شيء في سباق الأحداث ورودها، الزمن والمبادرة ... الخ. وما يصلح قبل ليلة لا يصلح بعدها بل وما يفيد قبل ساعة لا يفيد بعدها ، لذا ان لم يكن (الزعيم) أهلاً لتلك الزعامة فإنه يجد نفسه وربما لأول مرة في حياته ضعيفاً وخائراً وعاجزاً على عكس ما كان يتصور هو وما كان يتصور شعبه وعلى عكس ما كان يوحي به إليه مستشاره وبطانته.
وفي التاريخ المعاصر لمنطقتنا هناك عدة نماذج لهذه الحالة (حالة خطاب العاصفة) من تلك النماذج صدام (العراق)، وبن علي (تونس)، ومبارك (مصر)، وعلي صالح (اليمن)، وبوتفليقة (الجزائر) ...الخ.   
ويختلف أول النماذج (صدام حسين) عن الأخريات لأن صدام كان يواجه عاصفة من الخارج (دولية) ومن داخل ، وعلى الرغم من كونه كان يعرف قوة العاصفة الدولية إلا أنه أساء تقدير العاصفة الداخلية ومن ثم أساء تقدير موقفه وقدرته على التصدى للعاصفة ، فجاء خطابه في وجه تلك العاصفة مناقضاً لما حدث بعدها ما أذهل المراقبين وربما أذهله هو نفسه .. فصدام الذي أضعف شعبه بالقهر والظلم والعزلة وبالحروب الطويلة أساء تقدير موقفه موقف الجبهة الداخلية وتماسكها ولذا بدلاً أن يسعى لأمتصاص قوة العاصفة الخارجية اختار مواجهتها بصلابة ففشل بإمتياز ، لماذا؟؟ لأن هذا الموقف العصيب الذي يواجه الامم لايتوقف اجتيازه علي قوة الجبهة الداخلية وحسب وإنما أيضاً على حكمة القيادة ، والقيادة الحكيمة في مثل تلك المواقف يكون هدفها الأول وهو تجنيب شعبها مثل تلك المواجهة غير العادلة، ولكن قيادة العراق كان ديدنها تجشيم شعبها عناء المواجهات في كل ما يسوي وما لا يسوى لذا كانت النتيجة المتوقعة أن سقطت القيادة ي غياهب التاريخ بينما سقطت الأمة في غياهب مستقبل مجهول المعالم.
إما بقية النماذج (تونس، مصر، الجزائر، اليمن، سوريا) فنجدها كلها متشابه من حيث الموقف العام أو التحديات الماثلة التي تكون المشهد العاصف لكنها تختلف من حيث تطورها وذلك لأختلاف الإستجابة وتوقيتها ومدى تناسب الخطاب مع قوة العاصفة السياسية فتلك الأنظمة كلها تعيش غربة عن شعوبها لذا فعندما تثور الشعوب يكون من الصعب على الأنظمة وعلى الزعماء تجسير الهوة وقطع مسافات الغربة تلك في الوقت  المطلوب ( وعندما يكون الزعيم قد فهم يكون الوقت قد فات على ذلك).
فالزعماء وبطانتهم طوال سنوات حكمهم يتخذون من التدابير والإجراءات والسياسات ما يعتقدون أنها تضييف على خصومهم ومعارضيهم الحاضر منهم أو المفترض والمتوهم ويضيقون على شعوبهم ولا يبالون كثيراً بمعاناة الشعب فيطلبون من المواطن التحلي بالمسئولية الوطنية وتحمل تلك الإجراءات الاستثنائية ( وهي في الواقع مستديمة ) وذلك حتى يتم كشف ومعاقبة العملاء والمخربين والمندسين إلخ ... بينما بالمقابل يتمتع الحاكم وبطانته بكل وسائل العيش المترف والمريح وبكل التسهيلات ويستمرؤن تلك التضييقات حتى تحين عليهم لحظة يكتشفون فيها أنهم انما يضيقون على أنفسهم فتضيق عليهم أرض الوطن وسماؤه بما رحبت ولا يكون ثمة مخرج سوى الفرار على متن طائرة لمنفى اختياري وما هو بالأختياري أو زنازين السجون والمعتقلات أو في أفضل السناريوهات الأنزواء في ركن مظلم من اركان تاريخ الشعوب.
أن الشعوب تتحمل دائماً الأزمات و التضييق والغلاء بصبر حتى يظن الزعيم وبطانته أن الأمور قد دانت لهم فتأتي لحظة تكون فيها الروح الثورة في المزاج الشعبي وصلت إلى مستوى اللاعودة فتنتفض الشوارع في وجه القهر وتبدأ العاصفة الشعبية في التكوين وتبدأ سرعتها تتزايد قوتها كذلك.
طيلة هذا الوقت يكون الزعيم ينظر بدهشة وينعقد لسانه ويصاب بالشلل وعندما تقترب منه عين العاصفة يكون في مقدوره مخاطبتها بما يهدي الأمور ويجد لنفسه مخرجاً يكرمه وقد يخلده ، ولكن ذلك يتطلب أولاً الحكمة التي تقنعه بأن الأمور قد وصلت ذروتها ويتطلب ثانياً أتخاذ القرارات الصعبة ، وهي صعبة لأنها تتعلق به هو وأسرته وبطانته أي أن يقدم تنازلات حقيقة تخاطب جذور الأزمة وعين العاصفة، فهي قرارات غاية في الصعوبة بالنسبة إليه فالبطانة دائماً ما تشير إليه باتخاذ قرارات سهلة لا تكلفها من امتيازاتها ومكتسباتها ما يذكر بحيث يمكن العودة والتنصل من تلك القرارات عندما تهدأ الأمور.
هذا بالضبط ما وقع فيه الرئيس التونسي السابق بن علي ومن بعده الرئيس المصري حينما حاصرتهم الحشود الشعبية التي تدين القمع والفساد وسوء الإدارة الذي ولد الفقر والعطالة والفساد وتطالب بالحرية والخبز ، سكت كلا الرئيسين في المبتدأ على أمل أن تقمع الشرطة تلك الحشود (وكيف لشرطة أن تقمع شعباً بكامله؟) لقد فشل بن علي وكذا مبارك في فهم الموقف بأبعاده كاملة وفشلاً في قراءة تطوراته ومآلاته حتى انجلى وقد قمع الشعب الشرطة!.
بعد ذلك وهما يقفان في عين العاصفة بخطاب مرتبك وخائر أدانا (التخريب) وأقرا بأن الشرطة كانت تؤدي واجبها وتنفذ  تعليماتهما ! ثم تعهدا بإجراء بعض التعديلات والإصلاحات وأقال كل منهما حكومته وشكل أخرى !! لم يفهما أن ما حدث أكبر من أن تفرغه تقديم قرابين هزيلة من الوزراء ورؤساء الحكومات، وإنما هو تحرك شامل يتطلب خطاباً قوياً وصادقاً وتعهدات بإجراء اصلاحات جذرية ،،لأن هذة مرحلة جديدة كلياً في التاريخين التونسي والمصري... وبسبب هذا الخطاب الهزيل في المثالين تصاعد الغضب وتصاعدت المطالب الشعبية فقال التونسيين (بن علي لا ) وطلب المصريين من مبارك الرحيل.
 ان الوضع لا يختلف كثيراً في حالات أخرى كتلك التي في الجزائر واليمن و سوريا ...ألخ حيث يبدو أن الأنظمة لم تفطن لما يدور ولما حدث لمثيلاتها فطفقت تتخذ من التدابير وتقدم لشعوبها حلوى التنازلات وتتودد إليها أملاً في إلهاء تلك الشعوب وأملاً في تفريغ الأحتقان الذي يتفاعل منذ عقود ... ولا يمكن أن نحكم الآن على الأمور وإنما علينا أن ننتظر قليلاً لنرى ما إذا كانت تلك التدابير ستمنع هبوب العاصفة أم لا ؟ وكيف ستتصرف تلك الأنظمة حال مواجهة عواصف شبيهة؟!.. وفي كل الأحوال فإن بقاء تلك الأنظمة أو زوالها رهين بأمرين، الأول، هو أن يعرف زعمائها أنهم يقفون في وجه العاصفة في الوقت المناسب والثاني هو أن  يتحلوا بالصدق وبالحكمة الكافية لدى مخاطبتهم لشعوبهم حين يقفون في عيون العاصفة!.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم ت...

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بين...

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانته...