التخطي إلى المحتوى الرئيسي

وطن ما وحدته الحرب فهل يقسمه السلام (1) / الجنوب : إنطباعات ومشاهدات اللحظات الحاسمة

انطباعات ومشاهد اللحظات الحاسمة في الجنوب (نشر بالصحافة 11/7/2010م)
: إن بلادنا التي أنهت حربا اهلية تعد من اطول الحروب أمدا في القارة الافريقية هاهي تدخل طورا جديدا يتهدد فية أمنها ووحدتها بشكل غير مسبق على الاطلاق ، ورغم ان الحرب لم تحقق وحدة الارض والشعب ، إلا ان السلام ذاته فشل في وضع اسس وحدة طوعية ليصبح الوطن في ظل السلام الذي انتظره الجميع طويلا واقعا تحت تأثير توتر وانقسام واحتقان لايقل عما كان معاشا في سنوات الحرب ، فمع كل مرحلة من مراحل تلك الحرب الطويلة تتغير الاولويات والتكتيكات والاستراتيجيات نفسها ، إذ بعد ان بدأت حرب من اجل المساواة والعدالة الاقتصادية تتطورت لتصبح حرب زنج ضد عرب وحرب مسيحيين ضد مسلمين ..الخ ، ومع ان الشاعر يقول ان ( طول الجرح يغري بالتناسي ) الا ان طول امد هذه الحرب اغرى طرفيها بنسيان المبادئ والمسلمات ...
لقد غادرت قبل ايام قلائل جنوب الوطن و ككثيرين غيري لاتروقني ، بل لا اتخيل ان اضطر - ان أردت العودة اليه مستقبلا - الى حمل جواز وتأشيرة واقامة وتوضيح الغرض من الزيارة وربما احتاج الامر الى كفيل!!.. لكن وبما ان كل الامور تسير على غير مايروقنا فلا امل في ان تكون هذه الحالة استثناءا ، خاصة بعد ان صارت احتمالات الانفصال وفق اكثر التكهنات تفاؤلا لاتقل عن احتمالات الانحياز لخيار الوطن الواحد ، لذا واسهاما مع غيري ممن لايزالون يتشبثون ببصيص أمل مقولة اتفاق السلام الشامل (جعل الوحدة الخيار الجاذب..) تأتي سلسة المقالات هذة والتي إخترت ان افتتحها بمشاهداتي وانطباعاتي الميدانية من ارض الجنوب حيث كنت شاهد عيان على الاحداث التي دارت هناك في لحظات حاسمة من تاريخ السودان وتاريخ جنوبه ، وشاهد عيان على آمال الوحدويين من ابناء الجنوب وطموحات الانفصاليين منهم .
هناك عدة ملاحظات وانطباعات خرجت بها من زيارتي واقامتي بالجنوب اهمها على الاطلاق هي ان المجتمع في الجنوب بدأ يتعافى (وإن كان ببطء ) من آثار الحرب ومن الظواهر التي تسود في فترة ما بعد النزاعات (post war phenomenon ) كالإنفلاتات الامنية والنزاعات المدنية التي تدور على الموارد والاصول التي فقدت ايام الحرب (الارض والمرأة والاطفال ..الخ) والبطء المشار اليه ناتج عن العقلية التي تدير شئون الجنوب عقب السلام ،فقيادات وكوادر الحركة والجيش الشعبي والتي استلمت زمام الامور منذ 2005 استمرت في ادارة الامور بذات الطريقة الصبورة (البطيئة) التي كانت تدير بها امور المعارك والقتال.. فهي قاتلت واحد وعشرون عاما حتى تصل الى ماهي عليه الآن لذا فان تلك القيادات ليست على عجلة من أمرها وهي تدير شئون الحكم ومتطلبات الحياة المدنية بذات الطريقة وهذا مايثير حفيظة الآخرين ممن لم يكونوا في الغابة خصوصا اولئك القادمين من الغرب والمتأثرين بثقافة عصر السرعة..
هذا قد يكون احد اخطاء الادارة الجديدة في الجنوب ، ومن اخطائها ايضا عدم حسمها للتصنيف والتقسيم الذي روج له واعتمد لدى كثير من قياداتها والذي صنف المواطنين في الجنوب على اساس موقعهم ابان فترة الحرب ، فبموجب ذلك التصنيف يعتبر من شارك في القتال ولو في ايامه الاخيرة (القادمون من الغابة) مواطنون من الدرجة الاولى يستحقون معاملة خاصة ولو لم تؤهلهم مقدراتهم وخبراتهم لتلك المعاملة بينما اعتبر القادمون من معسكرات اللجوء في دول الجوار والمنافي البعيدة مواطنين في المرتبة الثانية ، اما الذين عاشوا في الجنوب تحت القصف في المناطق التي سيطر عليها جيش الحكومة و الذين نزحوا شمالا فأعتبروا مواطنين من الدرجة الثالثة ..هذا التصنيف غير عادل علاوة على كونه يناقض مبادئ الحركة التي كانت تعتمد عليها في الترويج لاجندتها باعتبارها حركة تحرير تنشد العدل والمساواة بين المواطنين ! لذا فهذا التصنيف يمثل خطرا ليس على الجنوب فحسب وانما على حكومته اولا (الحركة) لكونه يفقدها مصداقيتها ويستعدي ضدها عدداً مقدراً من الجنوبيين الذين يفترض انها اتت لتحريرهم لا لإضطهادهم.
ثم ان الحركة التي كونت عصب الحكومة والادارة الجديدة في الجنوب عقب انسحاب الحكومة والجيش المركزيين منتصف العام 2005 تعاملت مع الشماليين باعتبارهم مواطنين من الدرجة الرابعة ، فالادارة المدنية الجديدة تخلو تماما من اي شمالي حتى من اولئك الذين يمكن اعتبارهم جنوبيين بحكم النسب اوالمولد اوالنشأة ، بل وحتى الذين آثروا العمل التجارى الحر ( الجلابة ) فان بقاءهم محكوم بمعادلة دقيقة وخاصة ، فهم باقون بحكم الحاجة اليهم وعليهم ان يجمعوا ارباحهم مقابل الخدمة التي يقدمونها والادارة توفر لهم الامن بقدرما يكفي لامنهم الشخصي وسلامة ممتلكاتهم، وليس لهم ان يتوقعوا او يطلبوا اكثر من ذلك .. فهي لا تأمنهم من الابتزاز او الخضوع لسطوه المتنفذين ممن يحملون القانون في جيوبهم .
ورغم حاجة الاقليم لخبرات بعض الشماليين الفنية الا ان الادارة الحالية تلجأ لسد تلك الحاجة من دول الجوار(يوغندا ،كينيا اريتريا..الخ) رغم كلفتها العالية او لخبرات الدول الغربية والتي في الغالب ما ترسل مواطنيها ذوي الاصول الافريقية حتى وان كانت خبرتهم ليست بالمستوى الكافي ..هذا الوضع يشير الى حقيقة واحده هي ان الممسكين بمفاتيح الادارة في الجنوب لديهم نوايا مبكرة لدفع الاقليم تجاه الانفصال حتى قبل ان يثبت فشل شرط جعل الوحدة خياراً جاذباً ، وانهم يعتبرون فرضية كل شمالي مؤتمر وطني غير قابلة للنفي رغم واقعة ان عدداً مقدراً من الشماليين قاتلوا الى جوارهم في صفوف الحركة وعدد مقدر آخر تحالفوا معهم ودعموهم بمختلف الاشكال والصور .
ومن الملاحظات ايضا ان ميل الادارة الجديدة في الجنوب للاستئثار بكل كعكة الجنوب يدفع القوى الاخرى الناشطة سياسيا للتذمر ، ورغم الضعف الظاهر لتلك القوى حاليا فان ذلك لا يقلل من خطورة هذا الوضع في المستقبل القريب ، ولن يجدي في علاج هذا الوضع ما قد تلجأ اليه النخبة الحاكمة في الجنوب مثل دعوة تلك القوى للاشتراك في الحكومة الجديدة لأن المنح لاتجدي في علاج الامور المتعلقة بالحقوق ، خصوصا وان الحكومة المقبلة تأتي ثمرة لانتخابات تتيح لتلك النخب امكانية الزعم بشرعية وجودها وافعالها...
وما تمرد الجنرال جورج اطور والقائد قاي إلا نماذج لما يمكن ان تنحدر اليه الاوضاع في الاقليم ان لم تتم معالجات جذرية وعاجلة للوضع الذي قاد اليها .
من المشاهدات ايضا ان الاقتصاد في الجنوب يعتمد بصورة كبيرة على الدولة ، وانتعاش السوق يتوقف على المشتريات والانفاق الحكومي ، بل وحياة الناس بالاجمال تقوم على المرتبات الحكومية إذ هناك ادارات حكومية صغيرة تجد فيها عدداً كبيراً جدا من العمال لايتناسب وحاجة تلك الادارات او مواردها ، وبصورة تقريبية عامة لايقل عدد المواطنين الذين يعملون في جهاز الحكومة (قوات نظامية او الادارة المدنية ) عن نصف سكان الجنوب ، ظروف الحرب يمكن ان تبرر هذا الوضع لعام اوعامين لكن لاتبرر استمراره لخمسة اعوام ، فغياب الرؤية الاقتصادية والتخطيط السليم والادارة الفاعلة كلها عوامل تقف خلف هذا الوضع ، والطريف ان رئيس حكومة الجنوب الفريق سلفا كير في احدى خطبه شبه الحكومة بـ (الكلبة) وكبار موظفيها بالجراء التي ترضع من ثدي امها دون ان تتيح للجراء الاخرى فرصة وقال ان التغيير الوزاري وإقالة كبار الموظفين يشبه انتفاضة الكلبة التي تعبت من الرضاع وانتفاضتها هذي تتيح للجراء الاخرى فرصة لتنال نصيباً من لبن الام ...
وفي الواقع يحتاج اقتصاد الجنوب لما هو اكثر من انتفاضة الكلبة الام ، مثل ايجاد اثداء اخرى عديدة و(فطم) الاقتصاد اليومي من ثدي الحكومة ،مثل دعم القطاع الخاص وتشجيع المواطنين وتحفيزهم لزيادة موارد الدولة الانتاجية عبر النشاط الزراعي والحيواني والغابي..الخ.
ومن الملاحظات كذلك ان اقتصاد الجنوب وادارته الجديدة تقعان بالكامل تحت رحمة الفساد المستشري بقوة وبصورة تهدد نموه ونهضته سواء كان ذلك في ظل الدولة الواحدة او الدولة المستقلة المنفصلة ، ورغم الميزة النسبية التي يتمتع بها الجنوب في هذا الخصوص وذلك لكون ان الفساد فيه عبارة عن وحش ضخم لكنه واضح المعالم مما يتيح مكافحته بعكس الشمال حيث ان الفساد فيه يشبه الشبح الذي لا يرى ولا احد يعلم اين سيظهر ؟ ولا متى سيضرب ضربته التالية؟؟ .. ورغم تلك الميزة فإن آليات وامكانات مكافحته لاتزال ضعيفة ، وفي ظل هذا الوضع يمكن ان يتحور الفساد ويصبح المهدد الاول للإستقرار في الجنوب
يتواصل
11/7/2010

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تفكيك خطاب الحرب و (فلسفة البلابسة)

   الخطاب و الموقف السياسي المساند للحرب و الحسم العسكري و رفض التفاوض و رفض أي حديث عن تسوية سياسية سلمية يعتمد علي استقطاب و تحشيد العوام ممن لا خبرة و لا معرفة لهم بطبيعة الحرب ولا السياسة!    تحشيد العوام هذا خلق تيار جارف اخذ في طريقه حتي بعض "الانتلجنسيا" ممن لا قدرة لهم علي مواجهة العوام او ممن يظنون ان كل هذا الحشد لا يمكن الا ان يكون علي حق، فيحتفظ برأيه لنفسه او حتي يتخلي عنه و ينخرط مع التيار ..!!   في المقام الاول ان لخطاب العنف و التحريض و "الانتقام" جاذبيته؛ و ان للقوة و استعراضها سطوة، مثلما ان لصورة الضحية فعلها؛ اما اذا دمج خطاب الضحايا مع خطاب القدرة علي الانتقام فاننا نحصل علي سيناريو تقليدي للافلام "البوليودية" و كثيرون هنا تفتق وعيهم و انفتح ادراكهم علي افلام الهند! فما يحدث و ما يدعو اليه خطاب الحرب بالنسبة لهؤلاء مفهوم و مستوعب و في مدي تصورهم لذا يرونه ليس واقعياً فحسب بل و بطولي و مغري يستحق ان ينخرطوا فيه بكلياتهم. سؤال الطلقة الأولي: قبل ان يعرف الناس الحقيقة بشأن ما قاد الي هذه الحرب التي انتشرت في مدن السودان و ولاياته ان...

لماذا يفضل الملكيون العرب التعامل مع جمهوريي اميركا؟؟

  لا يخفي الملوك و الامراء العرب "و اعوانهم" ميلهم و تفضيلهم التعامل مع ادارات جمهورية في اميركا و لا يخفون تبرمهم من تنصيب رئيس من الحزب الديمقراطي.. و يبررون ذلك الميل و التفضيل بمبررات مختلفة مثل تعامل الجمهوريين الحاسم مع ايران !! في الواقع فإن اكثر رؤساء اميركان الذين شكلوا اكبر تهديد للعرب و المسلمين هم من الجمهوريين (بوش الأب و الإبن و ترامب - غزو العراق و افغانستان و دعم اسرائيل)! لكن الجمهوريين كما عرب النفط يفهمون لغة المال جيداً و الادارة الجمهورية تضم علي الدوام اشخاص من قطاع الطاقة و النفط او صناعة السلاح او الادوية او حتي صناعة الترفيه "هوليود" يفضلون لغة النقود و المصالح. اذاً اكبر تهديد واجهه العرب و المسلمون من ادارات اميركية كان في فترات حكم جمهوري.. و بعد الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م اعلن بوش الابن سياسة صارمة في مواجهة انظمة اسلامية و عربية (افغانستان و العراق و السودان) كما مارس ضغوط غير مسبوقة علي السعودية اسفر عنها اجراءات حازمة ضد الجماعات المتشددة من الأخيرة، و تغيير في مناهج التعليم المدرسي و الجامعي فيها! الجمهوري ترامب اقدم علي خطوات غير مس...

شرح قانون الوجوه الغريبة !!

  المقصود بقانون الوجوه الغريبة هو اوامر الطوارئ التي صدرت في بعض الولايات بعد اندلاع حرب ١٥ ابريل/الكرامة و خصوصاً بولايتي الجزيرة و نهر النيل.. و هي اما اوامر صدرت من الوالي شفاهة و علي رؤوس الاشهاد او مكتوبة و مفادها ملاحقة ما يعرف ب "المندسين" و الطابور الخامس و من يشتبه في انتماءهم او تخابرهم مع مليشيا الدعم السريع، حيث راج ان المليشيا تدفع بعناصر من استخباراتها و قناصيها الي المناطق التي تنوي احتلالها لتقوم تلك العناصر بالعمل من الداخل بما يسهل مهمة الاحتلال .. و تستهدف الملاحقات الباعة الجائلين و اصحاب المهن الهامشية، و أي شخص تشك فيه السلطات او المواطنين؛ و في اجواء من الارتياب بالغرباء غذتها دعاية الحرب تم الطلب من المواطنين التعاون بالتبليغ و حتي بالقبض و المطاردة علي من يرتابون فيه. قانون او تعاليمات (الوجوه الغريبة) اسفرت عن ممارسات متحيزة "ضد غرباء" تحديداً ينحدرون من اقاليم كردفان و دارفور في ولايات عدة (الجزيرة، و نهر النيل، و كسلا، و الشمالية)؛ فالوجوه الغريبة هي اوامر تأخذ الناس بالسحنة و الملامح؛ و هي ممارسات بالتالي اسوأ مما كانت تمارسه "مح...