(نشر بصحيفة الاحداث)
حتي وقت قريب كنا جميعا نتحدث عن مشكلة جنوب السودان اختصارا لوصف الحرب الاهلية الدائرة رحاها في الجنوب .. وقد جاهد الراحل الدكتور جون قرنق لإقناعنا بان الإشكال هو في الحقيقة مشكلة كل السودان وليس الجنوب وحده .. ولكن حين بدأت فكرته وعقيدته تجد بعض الرواج .. أولا : رحل هو . وثانيا: لايزال قسم كبير منا مصرا علي انها مشكلة جنوب السودان . وثالثا : لايبدو اننا نحن الذين بدأنا نقتنع بصحة اطروحته ؛ قد اقتنعنا بما فيه الكفاية رابعا: لم يعد الوقت يكفي لمزيد من الجدل النظري والحوار... فوصلنا الي نقطة اضحت معها وحدة أراضي السودان في اضعف حالاتها ؛ وضعف وحدة أرضي السودان ليس ناتجا عن اتفاق السلام الشامل وتوابعه من البرتوكولات وتقرير المصير ؛ فتلك الاتفاقية وذلك الحق اقرا حقا قانونيا معترف به في القانون والعرف الدوليين وانما بسبب الاسلوب الذي تمت به إدارة تلك الاتفاقية وذلك الحق.
كما ان ضعف وحدة اراضي السودان ليس ناتجا عن موقف الانفصاليين في جنوب السودان او في شماله (اخوان الطيب مصطفي) / وللمفارقة فان للانفصاليين الشماليين رايه اعلي من راية نظرائهم في الجنوب ورمز يلتفون حوله !!
فمسألة مستقبل و مصير السودان وجنوبه اكبر من الطيب وغيره من الانفصاليين ، هؤلاء قوم سذج يسطاء لو وجدوا (طريقة) لإيقاع الانفصال اليوم لما ترددوا في ايقاعه ؛ ولو وجدوا سبيل يمنعون به تجاور (دولتي الشمال والجنوب ) لفعلوا ولكن هيهات لهم ذلك !!
ضعف الوحدة ناتج عن موقفنا نحن الوحدويين الذين علمنا طريق الوحدة فتنكبناه بسيقان لاتقوي علي الحمل والمسير .. وبدلا عن العمل من اجل الوحدة بدأنا بالحديث عن الحرية والحق في الدعوه للإنفصال في الجنوب والشمال مع كون أؤلئك الإنفصاليين لاينتظرون منا تنظير او ترخيص وتبرير فقد انطلقوا الي هدفهم المدمر لا يلوون علي شئ .
وهناك عدة مظاهر لضعف وهوان وحدة اراضي السودان اليك بضع منها وان كان ذلك لايحتاج الي مشير ؛ ومن تلك :-
· ان ضعف وحدة اراضي السودان وهوانها حدت بذلك الشيخ الطاعن الذي رد الي ارذل العمر و لايزال يتزعم جماعة دينية ؛ حدت به الي لعن الوحدة " ان كانت علي حساب مثالياته وترهاته التي مامن سبيل اليها" وذلك دون ان تطرف لنا عين او تحرك لنا ساكن .
· واليأس من الإبقاء علي السودان موحدا حدا بالإمام صاحب الحق المضاع الي استباق الاحداث والدعوة الي البحث في تدابير ما بعد تكوين دولة الجنوب .
· كما حدت بكاتب "دكتور" الي النحو منحي الامام والزيادة عليه بوضع تدابير منها الاتفاق علي اقتسام إرث السودان الواحد بما في ذلك اقتسام ديونه !!
ان ما ذهب اليه الامام والكاتب وغيرهما يؤكد امر واحد هو اننا معشر السودانيين قوم بعد ان فشلوا في في السيطره علي راهنهم وحاضرهم المعاش ؛ولم يحسنوا قبل ذلك فهم ماضيهم بالعكوف عليه لتمحيص صحيحه من باطله وتمييز خبيثه من طيبه ؛هربوا و ركنوا دوما لإستباق الاحداث و استبصار المستقبل ببصيرة واهنة وعقل ضعيف .. هذا مع العلم ان البصيرة مهما كانت حادة لن تستطيع ان تقدم المستقبل علي انه حقيقة كائنة وانما مجرد صورة تقريبية "مقلوبة الابعاد" ..
والانفصال الذي يتحدث عنه الجميع كأنه حقيقة و أمر واقع لهو في الاصل فعل مرهون برغبة و ارادة الجنوبيين واصواتهم ولن يحدث مالم يتم فرز غالبية تلك الاصوات وتكون فيها كفة الاصوات المؤيدة للانفصال هي الراجحة ، لذا فان الحديث عن الانفصال قبل ذلك الحين لايعدو كونه رجم بالغيب واستباق للاحداث بلا حسن نظر او تدبر .
ولعل آخر ما كتبه د.منصور خالد من مقالات نشرت بعديد من الصحف الخرطومية مؤخرا تحت عنوان كبير : السودان الي أين المصير؟ ؛ لعله يصب أيضا في خانة ملامح هوان وحدة السودان .. فقد بدت هذة المقالات و كأنها مرافعة دفاع ختامية عن حلم السودان الجديد وتوجهات الحركة الشعبية ، و يتضح منها ان المترافع قد حاد عن خط دفاعه الاول وتمترس متراجعا الي خط ثان متجاهلا الوقائع و لاعبا علي أوتار الصيغ القانونية مع محاولة التنصل وتحميل المسئولية الاخلاقية لنتائج حكم ( محكمة الشعب الجنوبي) ، ففي نهاية المطاف تقع نتيجة الحكم علي عاتق المتخاصمين (لا المترافع) فيفرح من يفرح و يقنط من يقنط اما المترافعين فلا ينالهم من اثار الحكم سوي قدر من الشحنة المعنوية الموجبة او السالبة وفي كلتا الحالتين لن تمنعهم من تقديم مرافعات أخري في قضايا أ‘خر .
ان ما يدعو للأسف هو ان مقولة (جعل الوحدة خيارا جاذبا ) كانت هي كذبة نيفاشا الوحيدة و ماعداها فكله صدق معظمه مرير، لذا لم يفتح الله علي الشريكين ليقولا كلمة طيبة في حق الوحدة حتي خرج المؤتمر الوطني ببدعة ال 70% او يزيد نصابا للانفصال باعتبار ذلك تطبقا لجاذبية الوحدة وما ذلك في الواقع الا وجها جديدا ولكنه اشد قبحا للوحدة القسرية ولعل المؤتمر الوطني ترك كل معاني الجاذبية التي يفهمها الناس وتمسك بعني العالم الفيزيائي اسحق نيوتن !!
والمفارقة العجيبة ان انصار الوحدة وانصار الانفصال في الشمال ينطلقون من مقاربة واحدة تمثل اعوجاج الفهم والفكر لدينا في أجلي تمظهراته ، فكلاهما يرهن الوحدة / او الانفصال الي تخلف الجنوب في الراهن والتوقعات بنشوب حروبات قبلية جنوبية –جنوبية في المستقبل حال الانفصال ، فالوحدويون في الشمال يراهنون علي ان يختار الجنوبيون الوحدة خوفا وهربا من اندلاع حرب قبلية اشد مضاضة من الحرب السابقة ضد الشمال .. اما الانفصاليون فبراهنون علي ان الشمال (ان تخلص ) من الجنوب (المتخلف) فسيتخلص من كل المشاكل التي اقعدته ومن ثم ينطلق في مراقي التقدم لايلوي علي شئ !
عود علي بدء فان كان مشروع د.جون قرنق قد انتهي الي ما نحن عليه ؛ فاذا بالمشكلة لا هي مشكلة الجنوب ولا هي مشكلة السودان .. وانما استحالت وتستحيل شيئا فشيئا لتنجلي حقيقة الامر فنكتشف جميعا ان المشكلة هي فعليا مشكلة شمال السودان .
ان فوائد الشمال من بقاء السودان موحدا لاتقل بحال عن الفوائد التي قد يجنيها الجنوب من الوحدة ، و واقعيا فان دولة الجنوب (ان وقع المحظور) ستتخلق ولديها فرصها كاملة غير منقوصة للنجاح او الفشل اما دولة الشمال فستتحمل وزر الفشل السابق كله وحدها .. الشمال (المتطور) وصل من عقود الي اقصي درجات سلم التطور التي يقدر علي رقيها ولم يستطع منذ ذلك الحين تجاوز ذلك الحد بل وغالبا ما يتم التراجع درجة او درجات ... فان اكتفي الفرحون بهذا التطور فذاك شأنهم اما ان ارادوا الوصول الي مثال اليابان او ماليزيا كما منانا الانقاذيون اول الامر فان ذلك دونه خرط القتاد ولن يستطيع الشمال بالعقلية السائدة حاليا التقدم قيد انملة مالم تحدث لديه ثوره فكرية .
وتلك الثورة لن تحدث من تلقاء ذاتها اذ فقط بعملية عصف ذهني يتم فيها الاستفادة من ميزات العقل الشمالي و الجنوبي علي حد السواء ويتم فيها كذلك التخلص من مساوئ العقلين ( الاستعلاء ،القبلية ، القيم والمفاهيم المثبطة ...الخ ) وحينها فقط يمكن ان تحدث ثوره في طرائق التفكير لدينا وبفعل تلك الثورة الفكرية يمكن وضع السودان علي الطريق الصحيح للنهوض والتقدم ؛ وحينها تكون مفاهيم ومفردات (الانفصال ،الاختلاف الديني ، والعرقية ، والاختلاف الثقافي ...الخ ) ضرب من اساطير السودانيين الاولين.
واو / في 29/1/2010
تعليقات
إرسال تعليق