تطل علينا مع تباشير العام 2017م الذكري السادسة لثورات الربيع العربي الذي انطلق بثورة الياسمين في تونس علي يد الشهيد محمد البوعزيزي، ثم انهارت بعدها انظمة مصر مبارك وليبيا القذافي و يمن علي صالح، الي سوريا الاسد وطرقت حتي نوافذ وابواب الخليج..
اتضح لاحقا ان لتك الثورات اعداء كثر داخل كل دولة وفي المحيطين الاقليمي والدولي، اما أنصارها فلم يكونوا سوي الشباب الاعزل الا من سلاحي الارادة والمعرفة الحديثة، لذا كان شعارهم وشعار الربيع هو مقطع الشاعر ابو القاسم الشابي (اذا شعب يوما أراد الحياة) والشعب يريد اسقاط النظام.
بالنظر الي واقع الحال اليوم نجد ان الحكومات في الدول التي نجح الربيع في تغيير رأس السلطة فيها (تونس، ومصر، وليبيا، واليمن) نجد ان النظام نجح في تجديد جلده ونبت له رأس جديد، وذلك أمر طبيعي لأن الانظمة كانت ارسخ قدما من معارضيها، صحيح انها كانت ولا تزال تعاني من لمسات اخراج تداول السلطة داخلها و جنحت في بعضها ودرست في الاخري خيار توريث السلطة عائليا..
لكن هذا لا يعني بالمطلق انتصار اعداء التغيير في تلك الدول، فالسبسي لن يكون بن علي، والسيسي لن يصبح مبارك، وهادي ليس بديلا لعلي عبدالله صالح، و مصطفي عبد الجليل أو فائز السراج لن يحلا مكان القذافي، تلك الحكومات الجديدة والطواغيت البديلة تحتاج لوقت طويل حتي ترسخ اقدامها ولن تسمح لها الشعوب بفعل ذلك لأن تميمة الربيع وتعويذته اصبحت في كل بيت و علي لسان كل طفلة وطفل، و طريق التغيير اصبح معروفا للجميع ولن تثنيهم فزاعات الفوضي والخراب عن الثورة من أجل الحق في الكرامة والعدل الاجتماعي. بينما في المحيط الاقليمي فان حلف الخليج اضافة لإيران وتركيا وحتي اسرائيل اتضحت افعالهم المعادية لإرادة الشعوب ورغبتها في العيش في ظل ديمقراطيات تحترم حقوق الانسان، لقد نجح ذلك الحلف الشرير في تحويل الربيع الي جحيم حرب أهلية في ليبيا واليمن وسوريا، لكن الوقوف في وجه عجلة التاريخ ليس الا ضرب من العبث، قد ينجحوا في (فرملة) وايقاف عجلته للحظات، لكن سرعان ما تدور في اتجاه سهم المستقبل، ولن تستمر حكومات احتكار الحق السياسي اكثر مما فعلت وستنسرب نسمات الربيع الي قلب الصحراء طال الزمن او قصر.
أما الموقف الدولي (خصوصاً جناحه الغربي، أميركا، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا) من الثورات الربيع العربي، فقد اتسم بالتخبط والالتباس، وأتضح بجلاء أن موقف الدول الغربية حيال الدول العربية لا يخرج عن واحد من خيارين لا ثالث لهما، فهو إما موقف لا يعتمد استراتيجية واضحة وفلسفة محددة، أو يعتمد استراتيجية معارضة لطموحات وتطلعات الشعوب العربية.
يمثل موقف الدولة الفرنسية من ثورة الياسمين (ثورة تونس) نموذجاً لذلك، فبادئ ذي بدء ومع انطلاقة الاحتجاجات التونسية كانت الدبلوماسية الفرنسية تقف في خط واحد مع نظام زين العابدين بن علي، ولم تخفي الوزيرة الفرنسية أليو ماري دعمها ودعم بلادها اللامحدود للبوليس التونسي واستعداد فرنسا لمساعدته في ذلك، وفي ذات الوقت الذي كانت فيه الاحتجاجات المنادية بالحرية تسير في كل مدن تونس، كانت أليو ماري تستمتع بقضاء عطلة على نفقة الحكومة –الشعب- التونسية.
وبعد اندلاع الثورة المصرية تأخر الموقف الرسمي الغربي على أمل أن يحسم النظام المصري هذا الموقف لصالحه، وأيضاً بالنسبة لليمن الذي بدأ فيه واضحاً أن الولايات المتحدة تفضل المحافظة على حليفها – في الحرب على الإرهاب – على الأوضاع هناك، بل وأبعد من ذلك في سوريا التي يعد نظامها من الأنظمة المارقة على الهيمنة الأمريكية، لم يتبلور موقف دولي سريع من الأزمة، رغم القمع الوحشي والدموي، وحتى بعد تبلوره لم يحدث تقدم سريع من خانة الشجب والدعوات التي يطلقها صغار الموظفين في البيت الأبيض والحكومات الغربية الأخرى، وقد تطلب الأمر عدة أشهر وآلاف القتلى حتى يخرج الرئيس الأمريكي طالباً من الأسد الاختيار بين قيادة التغيير أو التنحي!، ويبدو أن نظام الأسد يمثل للغرب وإسرائيل عدو لا غنى عنه، وحتى العقوبات التي فرضت على بعض الرموز تجنبت الأسد في بادئ الأمر!.
وقبل ذلك في ليبيا ترددت الدول الغربية عن اتخاذ موقف محدد وحاسم قبل أن يصدر تفويض ودعوى من جامعة الدول العربية، هذا رغماً عن أن القذافي مثل للغرب عدو قديم وإن كان بدأ مؤخراً تطبيع علاقاته مع الغرب بعد عقود من العداء الظاهر والمستتر، والذي تمثل عملية لوكربي طائرة مدنية أمريكية قمة جبل جليدها.
وحتى بعد تسوية ملف تفجير الطائرة الأمريكية فإن ضغط القذافي من أجل إطلاق سراح المدان الوحيد في هذه الجريمة (عبد الباسط المقراحي) أعاد فتح جرح لم يندمل جيداً، وبرغم ذلك التطبيع الذي لم تكتمل فصوله، فإن التردد الغربي ناجم عن مخاوفه من أن سقوط نظام القذافي قد يؤدي إلى وصول حكام متطرفين ومعادين لأمريكا، يسيطرون على آبار النفط الليبي الممتاز.
ولولا الدفع الفرنسي (في محاولة لتجاوز إخفاق وتقصير دبلوماسي في تونس)، لما تبنى المجتمع الدولي موقفاً حاسماً من النظام الليبي وحتى بعد القرار الدولي (19973) القاضي بتوفير حماية جدية للمدنيين، فإن الحكومة الإيطالية ظلت إلى وقت متأخر تقاوم هذا التطور.
وفي البحرين التي طوى ملفها على تجاوزات كبيرة، تتجنب الدول الغربية الخوض في شأن أحداثها.
وينبغي هنا أن نوضح أمراً، هو أننا حينما ننعي على المجتمع الدولي (والغرب) موقفه من الثورات، لا نفكر أو نتمنى مواقفاً يرمي فيها الغرب بثقله العسكري ويتدخل بوزنه الاقتصادي وإنما نطلب فقط الانحياز الغربي لموقف وجانب الشعوب الثائرة من أجل الحرية، الانحياز معنوياً وأخلاقياً وسياسياً والانحياز لجانب الشعوب يقتضي عدم تأخير المواقف الداعمة إلى حين أن تخرج الشعوب عن بكرة أبيها، وإنما يكفي أن يخرج رجل واحد أو امرأة واحدة، فموقف الشعوب يعرف بدعوة الحرية ودعوة محاربة الفساد، ومن كانت هذه المواقف في صفة فهو يقف الموقف الصحيح ومن كان إلى جانب القمع وسفك الدماء والاعتقال فهو على باطل.
كل ما نطلبه من المجتمع الدولي هو أن يكون صادق مع نفسه، وأمين لقيمه وأن يدعم (معنوياً) الشعوب لا أن يدعم الأنظمة القمعية الفاسدة والمستبدة، ثم يردد على مسامع الشعوب أنشودة حقوق الإنسان، ويتغنى بها في آذان الضحايا صباحاً ومساء. نطلب منه أن ينأى بنفسه عن الحكام الذين يسفكون الدماء ويسرقون الأموال ويكدسونها في البنوك العالمية، وأن يكف عن توفير غطاء سياسي ودبلوماسي ومادي لقيادات تلك الأنظمة ومعاونيها من دبلوماسيين وتنفيذيين.
في الجانب الآخر كان موقف (الجناح الشرقي للمجتمع الدولي) ونقصد بالجناح الشرقي روسيا والصين، أكثر اهتزازاً وضعفاً، وفي الواقع من الصعب فهم الاستراتيجيات أو الفلسفة التي تنطلق منها مواقف روسيا والصين الدبلوماسية، وإن كانت الصين تزعم بأن سياستها الخارجية تقوم على مبدأ عدم التدخل، إلا أنها وتماماً كروسيا تظل صامتة حيال أي حدث عالمي ولا تتحرك إلا بعد أن يتحرك الموقف الأمريكي والغربي، لتقف في مواجهة ذلك الموقف، ولكنها مواجهة شوفينية دعائية عديمة المضمون والنفع للعالم وإن كانت تذكر بأيام الحرب الباردة، و ربما يكون القصد الوحيد من تلك المواجهة هو مساومة الجناح الغربي للمجتمع الدولي لتقديم تنازلات في ملفات أخرى بعيدة كل البعد عن الملف الماثل، بينما تكون الملفات الأخرى ذات جدوى وأهمية بنظر الدبلوماسية الروسية أو الصينية.
ففي ليبيا ظل موقف الروس والصينيين أقرب إلى دعم القذافي، ولم يتحرك ذلك الموقف إلا خطوة أو أقل أواخر مايو، أي بعد أربعة أشهر على اندلاع الاحتجاجات والمواجهات العنيفة. أما في مصر وتونس، فإن مواقف موسكو وبكين لم تكن ملحوظة حتى، بسبب أن تلك الأنظمة لم تكن تقيم علاقات متينة مع الدولتين الشرقيتين، أما في سوريا فإن موقفهما يظل أقرب إلى الشد على يد الأسد ودعم نظام البعث وذلك بسبب الروابط الاشتراكية التاريخية التي ظلت تربطهما كأثر من العهد الشيوعي. علي كل حال لن ينحج الموقف الدولي الداعم للديكتاتوريات سرا وعلانية لن ينجح في الفت من عضد وارادة الشعوب المتوثبة لنيل حقها الطبيعي في الكرامة وممارسة سلطتها السياسية وسيادتها كالملة غير منقوصة، وحينها ستكون خسارة الاحلاف الدولية غربية كانت او شرقية في منطقتنا عظيمة لأن الشعوب لن تغفر لتلك الانظمة تجاوزاتها في حقها كما ان شعوب تلك الدول "غربية وشرقية" ستكتشف عاجلا او آجلا تواطؤ حكوماتها وخيانتها لقيم الديمقراطية وحقوق الانسان ومعاداتها للشعوب.
تعليقات
إرسال تعليق