التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مؤتمرات الصلح القبلي.. علي حساب القانون؟!*

   تعددت وتزايدت بمعدﻻت خطيرة في السنوات الماضية حوادث الاقتتال والصدام القبلي في مختلف ارجاء السودان. راح ضحية ذلك الاقتتال عدد كبير من المواطنين، كما نتجت عنه خسائر مادية اقتصادية، وترتبت عليه العديد من حالات النزوح والتشرد، وبتعدد وتزايد حالات الاقتتال تلك تعددت مؤتمرات الصلح القبلي التي تهدف لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة..
مع الأسف فان مؤتمرات الصلح فشلت في وضع حد لتلك الظاهرة وذلك لسبب بسيط، هو ان الية الصلح ( المؤتمرات ) لا تفيد في وضع اساس يمنع تكرار مثل تلك الحوادث والاعتداءات القبلية في المستقبل، ولو علي المدي القصير، وانما تجدي فقط في تهدئة النفوس وامتصاص الانفعالات والضغائن عبر ما تتخذه من اجراءات لوقف التعديات ودفع الديات و هذه مرحلة يجب ان تعقبها مراحل و ترتيبات اخري.
   فشل مؤتمرات الصلح تلك مفهوم و مبرر ولا يقدح في نوايا من يرتبون ويشاركون فيها وذلك لكون ان تلك الصراعات والحروب القبلية لا تقبل التسوية بمثل تلك الاليات انما تعالج وفق رؤية تستوعب الاسباب التاريخية "ترسبات الانتماءات العرقية والقبائلية وضغائنها" والأسباب الراهنة كالاحتكاكات الناتجة عن ضعف بنيات التنمية وتدهور الاوضاع المعيشية والاقتصادية في مناطق تلك القبائل، اضافة الي تدخل العامل السياسي بصورة سلبية في استقطاب "سياسي وعسكري!" علي اسس عرقية و دينية زائدا استيعاب العوامل المستقبلية ايضا ذلك عبر التحسب لكل ما يمكن ان يطرأ من تغيير علي الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
   مؤتمرات الصلح يمكن ان تكون خطوة وحلقة في سلسلة طويلة من الاجراءات العلاجية تقود في النهاية الي تحقيق استقرار ومصالحات مستديمة بين القبائل المتنازعة. ويمثل القانون احد تلك الحلقات بل والحلقة الأهم في سلسلة الاجراءت تلك، ذلك من خلال تطبيق الاجراءات القانونية والجزاءات التي تهدف لتحقيق العدالة الجنائية بما يردع اصحاب النزعات العدوانية والاجرامية الذين يستغلون حالات التوتر القبلي للتنفيس عن نزعاتهم تلك.
   تفعيل الحلقة القانونية يقتضي اعمال المنشور الجنائي الخامس لسنة 1951م المعني بالاجراءات واجبة الاتباع في حالات المشاجرات والاشتباكات الجماعية "الشكلات" والذي افاض في وضع وشرح تلك القواعد الاجرائية و تقسيماتها ( المحاكمات المنفصلة والمحاكمات المشتركة بمحضر واحد و المحاكمات المشقوقة ) وتبيين الحالات التي يوصي فيها المنشور باتباع اجراء معين خلافا للاجراءات الاخري.
   تطبيق القانون علي تلك الحروب والاشتباكات القبلية وفق الالية المبينة في المنشور يرسخ المبادئ العقابية ويكرس لسيادة القانون والنظام والضبط العام و يحمي الارواح والدماء والممتلكات وينهي حالة الانتهاكات و الهدر والاستباحة، وذلك لكون ان الاقتصار علي اجراءات مؤتمرات الصلح قد يحمل البعض علي الاعتقاد بأن الاشتراك في اشتباك او مشاجرة قبلية لا يمثل جريمة خطيرة و لن يكون له تبعات او عقوبات ولا عواقب لافعاله التي يرتكبها استجابة لنداءات القبيلة!
   ان السلسلة المشار اليها؛ والتي تهدف معالجة ومنع والتخفيف من حدة النزاعات القبلية التي تقود الي اشتباكات يجب ان تضم حلقات اخري اضافة لآليات القانون و مؤتمرات الصلح، من ذلك حلقات التربية والتعليم و التثقيف عبر كل الوسائط وتوظيف كل الفعاليات الاجتماعية ومراعاة العوامل السياسية والاقتصادية.. وذلك لأن القانون بمفرده ايضا لا يمكن ان يعالج المشكلة فالقانون لا يعمل بمعزل عن باقي الظروف كما انه في الغالب يهتم بوضع حلول ومعالجات لمشاكل حادثة فعليا وفرض تدابير عقابية او ما شابه تطبق علي من يبدر عنهم سلوك مخالف للقانون ( فالقانون يهتم بالواقع لا بالماضي ولا احتمالات المستقبل )، لذا فان علاج النوايا الاجرامية المتصلة بالاقتتال القبلي يقتضي صياغة توليفة متكاملة تكون بمثابة تركيبة تنموية شاملة تسعي لتطوير ثقافة تعايش في بيئة متمدنة و حضارية بعيدا عن العنف والدماء و مشاعر الثأر و الانتقام البدائية.
...................... ...................
* نشر بتاريخ 20 يوليو 2009م بصحيفة الخرطوم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تفكيك خطاب الحرب و (فلسفة البلابسة)

   الخطاب و الموقف السياسي المساند للحرب و الحسم العسكري و رفض التفاوض و رفض أي حديث عن تسوية سياسية سلمية يعتمد علي استقطاب و تحشيد العوام ممن لا خبرة و لا معرفة لهم بطبيعة الحرب ولا السياسة!    تحشيد العوام هذا خلق تيار جارف اخذ في طريقه حتي بعض "الانتلجنسيا" ممن لا قدرة لهم علي مواجهة العوام او ممن يظنون ان كل هذا الحشد لا يمكن الا ان يكون علي حق، فيحتفظ برأيه لنفسه او حتي يتخلي عنه و ينخرط مع التيار ..!!   في المقام الاول ان لخطاب العنف و التحريض و "الانتقام" جاذبيته؛ و ان للقوة و استعراضها سطوة، مثلما ان لصورة الضحية فعلها؛ اما اذا دمج خطاب الضحايا مع خطاب القدرة علي الانتقام فاننا نحصل علي سيناريو تقليدي للافلام "البوليودية" و كثيرون هنا تفتق وعيهم و انفتح ادراكهم علي افلام الهند! فما يحدث و ما يدعو اليه خطاب الحرب بالنسبة لهؤلاء مفهوم و مستوعب و في مدي تصورهم لذا يرونه ليس واقعياً فحسب بل و بطولي و مغري يستحق ان ينخرطوا فيه بكلياتهم. سؤال الطلقة الأولي: قبل ان يعرف الناس الحقيقة بشأن ما قاد الي هذه الحرب التي انتشرت في مدن السودان و ولاياته ان...

لماذا يفضل الملكيون العرب التعامل مع جمهوريي اميركا؟؟

  لا يخفي الملوك و الامراء العرب "و اعوانهم" ميلهم و تفضيلهم التعامل مع ادارات جمهورية في اميركا و لا يخفون تبرمهم من تنصيب رئيس من الحزب الديمقراطي.. و يبررون ذلك الميل و التفضيل بمبررات مختلفة مثل تعامل الجمهوريين الحاسم مع ايران !! في الواقع فإن اكثر رؤساء اميركان الذين شكلوا اكبر تهديد للعرب و المسلمين هم من الجمهوريين (بوش الأب و الإبن و ترامب - غزو العراق و افغانستان و دعم اسرائيل)! لكن الجمهوريين كما عرب النفط يفهمون لغة المال جيداً و الادارة الجمهورية تضم علي الدوام اشخاص من قطاع الطاقة و النفط او صناعة السلاح او الادوية او حتي صناعة الترفيه "هوليود" يفضلون لغة النقود و المصالح. اذاً اكبر تهديد واجهه العرب و المسلمون من ادارات اميركية كان في فترات حكم جمهوري.. و بعد الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م اعلن بوش الابن سياسة صارمة في مواجهة انظمة اسلامية و عربية (افغانستان و العراق و السودان) كما مارس ضغوط غير مسبوقة علي السعودية اسفر عنها اجراءات حازمة ضد الجماعات المتشددة من الأخيرة، و تغيير في مناهج التعليم المدرسي و الجامعي فيها! الجمهوري ترامب اقدم علي خطوات غير مس...

شرح قانون الوجوه الغريبة !!

  المقصود بقانون الوجوه الغريبة هو اوامر الطوارئ التي صدرت في بعض الولايات بعد اندلاع حرب ١٥ ابريل/الكرامة و خصوصاً بولايتي الجزيرة و نهر النيل.. و هي اما اوامر صدرت من الوالي شفاهة و علي رؤوس الاشهاد او مكتوبة و مفادها ملاحقة ما يعرف ب "المندسين" و الطابور الخامس و من يشتبه في انتماءهم او تخابرهم مع مليشيا الدعم السريع، حيث راج ان المليشيا تدفع بعناصر من استخباراتها و قناصيها الي المناطق التي تنوي احتلالها لتقوم تلك العناصر بالعمل من الداخل بما يسهل مهمة الاحتلال .. و تستهدف الملاحقات الباعة الجائلين و اصحاب المهن الهامشية، و أي شخص تشك فيه السلطات او المواطنين؛ و في اجواء من الارتياب بالغرباء غذتها دعاية الحرب تم الطلب من المواطنين التعاون بالتبليغ و حتي بالقبض و المطاردة علي من يرتابون فيه. قانون او تعاليمات (الوجوه الغريبة) اسفرت عن ممارسات متحيزة "ضد غرباء" تحديداً ينحدرون من اقاليم كردفان و دارفور في ولايات عدة (الجزيرة، و نهر النيل، و كسلا، و الشمالية)؛ فالوجوه الغريبة هي اوامر تأخذ الناس بالسحنة و الملامح؛ و هي ممارسات بالتالي اسوأ مما كانت تمارسه "مح...