التخطي إلى المحتوى الرئيسي

التغيير و أزمة الحركة الاجتماعية في السودان

  الحركة الاجتماعية نوع من العمل الجماعي تقوم به جماعة غير رسمية باعداد كبيرة من المواطنين يركزون علي قضايا سياسية او اقتصادية او حقوقية وتعتمد اسلوب المقاومة او الرفض او تحقيق تغيير ما. وترتبط الحركة الاجتماعية ارتباطا وثيقا بالديمقراطية فهي اما ساعية نحوها او مكرسة لها.
وهي حركة حديثة اذ ان اول بروز لها كان في منتصف القرن الثامن عشر 'ثمرة لظهور الصحف' متمثلة في حركة مناصرة جون ويلكس رئيس تحرير صحيفة بريطانية وهي حركة داعمة لحرية التعبير.
ثم بروز الحركة ضد الكاثوليكية، والحركة البريطانية لابطال العبودية، والحركة الوثيقية التي تعتبر اول تجمع للطبقة العاملة وكان من ثمار هذه الحركة اقرار الاقتراع العام و السري.
ويعتبر العالم الالماني لونز فون شتاين اول من استخدم مصطلح الحركة الاجتماعية في الاوساط العلمية سنة 1848م..
  توالت بعدها الدراسات حولها وقام عديد من العلماء بصياغة تعريفات 'علمية' للمصطلح منها؛ "سلسلة الاداء المتواصل والحملات التي يقوم بها اشخاص عاديون لرفع مطالب سياسية. وهي وسيلة الأشخاص العاديون للمشاركة في السياسة" بحسب تشارلس نيلي، او
"الاعتراضات الجماعية ضد النخب و السلطات او القانون، يقوم بها اشخاص يتشاركون في الاهداف ويتفاعلون باستمرار مع النخب الحاكمة والمعارضة". بحسب سيدني ترو
و بموجب تلك التعريفات هناك سمات يجب ان تتوافر ليطلق علي الظاهرة مسمي حركة اجتماعية هي؛
اولا، الهوية المشتركة. ثانيا، التوجه المشترك. ثالثا؛ الحرص المشترك علي التغيير. واخيرا، احداث نشاط فعلي 'اجتماعات عامة، ومظاهرات، ووو' 
  تطورت الحركة الاجتماعية منذ ظهورها واخذت عدة اشكال خاصة في القرن الماضي، وتعد ثورة الحقوق المدنية في امريكا بقيادة مارتن لوثر كنج من أشكالها الحديثة كذلك حركات حقوق المرأة، حقوق المثليين، حركات السلام، حركات البيئة، حركات مكافحة التسلح النووي، حركات مكافحة عمل الاطفال، الخ و تسمي الحركات الاجتماعية الجديدة.
فيما يمثل نهج 'المساءلة الاجتماعية' احد احدث الاساليب والاستراتيجيات في تطوير الحركات الاجتماعية ومنحها فاعلية اكبر، والمساءلة الاجتماعية اليوم الية معتمدة لدي مجموعة البنك الدولي لتحسين 'الممارسة العالمية للحوكمة'، والمساءلة الاجتماعية تعني وتهدف لتعزيز قدرة المواطن العادي علي ايصال صوته ومطالبه ونقده للحكومة وممارسة رقابة علي أعمالها بشأن القوانين او الخدمات او الميزانيات..الخ.
تعتمد المساءلة بدورها علي ادوات منها حق الحصول علي المعلومات وشفافية الميزانيات والرصد التشاركي والتدقيقات الاجتماعية ونشر المراجعات والاشتراك في الحوكمة والمشاركة في الموازنات..
كما ل'المساءلة الاجتماعية' اطر نظرية لفهم تحسين ادواتها ونتائجها من ذلك نهج 'الموكل والوكيل' ونهج الطريق الطويل والطريق القصير و نهج العرض والطلب و نهج الرقابة الراسية والرقابة الافقية والرقابة القطرية، كل تلك الأطر والمناهج تعني بتحديد العلاقة بين المواطن والسلطة العامة بشكل اساسي.
  هناك فروقات وتمايز بين الحركات الاجتماعية من جهة و الاحزاب والتنظيمات السياسية و جماعات الضغط السياسي، و نقابات العمال والاتحادات المهنية، و المنظمات التطوعية من جهة ثانية؛ ويمكن تبيان تلك الفروقات كل علي حدا كالتالي..
اولا؛ الفرق بين الحركات الاجتماعية و الاحزاب والتنظيمات و جماعات الضغط السياسي:
الحركات الاجتماعية تهدف الي اقرار حقوق اجتماعية، سياسية او اقتصادية .. الخ او رفع ظلم اجتماعي بصورة نهائية ولا تهدف للحكم و الوصول للسلطة عبر انتخابات او خلافه وهي اوسع مدي من حيث قاعدتها الجماهيرية كما ان نظامها وقيادتها لا تستند لانتخاب داخلي ولوائح دقيقة انما علي الاقتناع والاقناع والنشاط فهي تطوعية بالمعني الكامل للكلمة بينما الاحزاب تسعي لاقرار وتنغيذ خطط وبرامج محددة من حيث النطاق والمدي الزمني كما انها تسعي للحكم مباشرة لأنه وسيلتها لتنفيذ البرامج التي تروج لها، و قاعدتها الجماهيرية بطبيعة الحال اصغر من قاعدة الحركات الاجتماعية ونظمها الداخلية صارمة و دقيقة والادوار محددة بلوائح ونظام. كذلك جماعات الضغط السياسي وان كانت تبدو اشبه بالحركات الاجتماعية الا انها تختلف من حيث المصلحة التي تدافع عنها اي ان اهدافها اضيق وتعبر عن مصلح محدودة لا مصلحة عامة و تنظيمها الاداري و محدد و تتحرك بناء علي دعومات مالية من جهات محددة بينما الحركات الاجتماعية تعبر عن مصالح فئات اجتماعية اوسع و تتحرك بوحي دعم جماهيري وليس لها نسق اداري منضبط.
ثانيا؛ الفروق بين الحركات الاجتماعية والنقابات:
النقابات العمالية واتحادات المهن تعبر دائما عن مصلحة فئة وقطاع محدود  بطبيعة الحال، ينحصر في عمال الصناعة او الحرفة المعنية و اصحاب المهن ذات الصلة...  قد يحدث وان ترتفع سقوفات شعاراتها و مطالبها لتعبر عن مصلحة وطنية في وقت من الاوقات لكن تبقي في النهاية تعبر عن مصلحة خاصة ورؤية محددة بينما الحركات الاجتماعية تنطلق من منظور رؤية اشمل ومصلحة عمومية الطابع في كل الاحوال.
ثالثا؛ الفروق بين الحركات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني:
المنظمات الطوعية 'منظمات المجتمع المدني' تعني بقضايا محددة تحديد دقيق و لاماكن وازمان معلنة سلفا 'اغاثة، مساعدات طبية، درء كوارث، .. الخ' ولها هياكل تحدد عملها وتلزم كذلك بقانون يلزمها بعدم تبني اجندة سياسية او الدعوة لها و بعدم تنظيم الفعاليات الاحتجاجية، بينما الحركات الاجتماعية كما سبق القول تعني بقضايا ذات طابع عام وليس لها هياكل او اطر ادارية ولا يكتمل عملها الا بالدعوة العامة لتحقيق اجندتها عبر كل الوسائل واولها الاحتجاج العام والتظاهرات..
وحتي الاتحادات الفئوية كاتحادات المرأة مثلا تختلف عن الحركات الاجتماعية التي تنشط لاقرار حقوق المرأة فالاتحاد يمثل حصرا النساء و يضع اطر ادارية بينما حركة الحق تشمل قاعدة اجتماعية اكبر و تتحرك بلا أطر تقيده وتكبل نشاطه.
علي ضوء التعريف والفروقات التي سبق ذكرها و بالقياس الي الواقع علي الارض في بلادنا علي مر العقود السابقة يمكن الزعم بثقة انه لم تتبلور قط اي حركة اجتماعية في السودان لا في الحاضر ولا الماضي ..
اذا اخذنا الحركة المهدية مثلا نجد انها بدأت حركة احتجاج اجتماعي سياسي لكن سرعان ما تحولت لحركة دينية ثم عسكرية قبل ان تملأ الرياح اشرعتها سريعا فتحولها الي سلطة وحكومة كاملة الاركان، والحركات الاجتماعية تفرض عموميتها الا تنحاز دينيا و الا تنهج العمل العنيف المسلح 'العسكري' انما تمثل القوة الاجتماعية 'المدنية' للشعب المعني.
واذا اخذنا حركة المتعلمين /المثقفين المتمثلة في مؤتمر الخريجين نجد انها انحصرت في اطر ادارية سريعا واصبحت اشبه ما تكون بمنظمة مجتمع مدني قبل ان تجرفها رياح السياسة و ينقسم المؤتمر الي احزاب سياسية تتنافس علي الاصوات والمقاعد و الحكم.
و ان اخذنا تجربة الاخوان الجمهوريين نجد انهم انحازوا لخيار الجماعة الدينية ثم الحزب السياسي ليبتعدو عن خيار الحركة الاجتماعية..
وحتي تجربة حركة حقوق المرأة فقد تحولت سريعا منذ ميلادها وتخلقت في شكل اتحاد فئوي يمثل شريحة النساء دون الرجال ما افقدها امتداد مهم كذلك سهل تحولها سريعا لتنظيم يمثل تيار نساء ذوات لونية سياسية معينة 'يسار/شيوعي و يمين/اسلامي' ما زاد من عزلته حتي وسط شريحة النساء التي يزعم تمثيلها!
ان يكون مجتمع ما بلا حركات اجتماعية يعني انه مجتمع معطل و محروم من اي فرصة للتعبير عن ذاته و اماله وطموحه، و مجرد من قوته الهائلة 'القوة الاجتماعية والتي تعبر عنها الحركة الاجتماعية'  وهذا الوضع يفسر الي حد كبير ما وصل اليه السودان اليوم من تردي وتدهور في كل مناحي الحياة بلغ مرحلة العجز التام والشلل الكامل. ذلك لأن المجتمع مغيب ومعزول وتم اضعافه لصالح فئات اقل قوة بطبيعتها من المجتمع الكامل 'احزاب ومنظمات'.
ان الغاء حجر في هذه البركة الساكنة "الراكدة" هو مسؤولية النخب بالتأكيد لأنها المتسلحة بسلاح العلم والمعرفة، ولذا فان النخب في ظل الوضع الراهن مطالبة بتجريب خيار الحركات الاجتماعية بعد عقود من تجريب اسلوب الحركات السياسية و المنظمات المدنية .. الخ فالوضع في السابق كان اشبه بوضع العربة امام الحصان فيما كان يجب وضع الحصان امام العربة! فالمطلوب هو وضع المجتمع في المقدمة ليوجه حركة الاحزاب و المنظمات والحكومات نفسها بينما كنا نضع الاحزاب والتنظيمات والحكومات في المقدمة لتجر مجتمع يفوقها حجما وثقلا، وهذا الوضع كذلك اشبه بتحريك عربة ثقيلة بمحرك صغير و جعل سفينة عملاقة تبحر بماكينة زورق!
التغيير الجذري و العميق يتطلب قاعدة كبيرة وعميقة، يتطلب اكبر مظلة ممكنة، وتلك لا تتوفر الا في وجود حركة 'حركات اجتماعية' تكرس وتجذر وتبشر بالتغيير ومفاهيمه وسط المجتمع وتوفر الحاضنة الاجتماعية الضرورية لتحقيق و لنجاح التغيير والثورة التي لا يكون ما بعدها شبيها لما قبل.
واذا كانت الحركات الاجتماعية قد ظهرت بعد ظهور الصحافة فان تطور صحافة الانترنت و ظهور مواقع التواصل الاجتماعي يمثل عامل محفز علي تطور الحركات الاجتماعية و لإطلاق موجة جديدة منها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم ت...

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بين...

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانته...