التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المفاصلة الدامية

  في ٤ رمضان الموافق ١٢ ديسمبر ١٩٩٩م حدثت مفاصلة نوعاً ما سلسة في الخرطوم بين قادة الحكومة (البشير رئيس الجمهورية و حسن الترابي رئيس البرلمان-له الرحمة)

انقسم نتيجتها حزب المؤتمر الوطني الي اغلبية اتبعت صاحب السلطة و القوة البشير و اقلية تبعت صاحب المشروع و الفكرة "و الرسالة"..

سبب المفاصلة في الاساس هو الصراع علي السلطة بين رئيس الدولة و رئيس البرلمان و الحزب.

و هدفها كان تحجيم نفوذ رئيس الحزب الترابي. و استندت علي مذكرة سياسية أشتهرت ب"مذكرة العشرة".

 في اقصي لحظات المفاصلة حدة فان كل ما كان يحدث هو ان قوة امنية تتجه الي منزل الترابي و بعض اعوانه و تعتقلهم..

لكن بعيداً عن الخرطوم و بعيداً عن القصر و المنشية.. و تحديداً في دارفور اتخذت المفاصلة طابع عنيف اسفرت عن تأجيج الحرب الأهلية و تأسيس حركة العدل و المساواة بقيادة الوزير الانقاذي خليل ابراهيم (له الرحمة) اخ جبريل ابراهيم وزير مالية السودان الحالي.. 

كانت العدل و المساواة فصيل يعتمد علي قبيلة الزغاوة ذات الامتداد الضارب في العرق الافريقي؛ و لكنه كذلك بمثابة جناح عسكري لحزب الترابي الذي خرج من عباء حزب السلطة العتيق (المؤتمرالوطني) كانت العدل و المساواة ترتبط بشكل لا لبس فيه بالمؤتمر الشعبي!!

و كردة فعل علي عنف الشعبي في دارفور أسس المؤتمر الوطني مليشيا تعتمد علي قبائل عربية مناوئة للزغاوة و لبقية القبائل ذات العرق الغالب الافريقي.. تلك كانت قوات نائب الرئيس و المتمرد (حالياً) محمد حمدان دقلو ..

عنف مفاصلة الخرطوم في دارفور لم يضع اوزاره الا مؤخراً و ان ظلت تداعيات ما بعد الحرب مستمرة في الاقليم.. اما في الخرطوم فقد كانت اثاره طفيفة تنحصر في ملاسنات تتخلها لحظات هدنة (حوار وطني) و لحظات انسجام (حكومة التوافق الوطني التي اشترك فيها تيار من قادة الشعبي بعد رحيل المؤسس في ٢٠١٦)، بينما وقفت كل القوي السياسية و الشارع السياسي علي الحياد و معظمه غير مصدق لما يدور!

و في تلك المفاصلة لم تحدث تعبئة علي اساس الدين (لأن الطرفين ينتميان لذات المدرسة-الاخوان-الحركة الاسلامية) لذا تم استغلال العرق و الاثنية، و حتي محاولات التوسط (راب الصدع - و اصلحوا بين اخويكم) لم ينجح استغلال العامل الديني فيها لأن كل طرف يتمترس خلف حجج دينية 

في ٢٤ رمضان الموافق ١٥ ابريل ٢٠٢٣م (أي بعد عقدين و بضع سنوات علي المفاصلة الأولي) حدثت مفاصلة ثانية بين الرئيس الحالي البرهان و نائبه دقلو.. و لأن كلا الرجلين يعتمدان علي القوة كرافعة سياسية (لا مشروع و لا رسالة) فان المفاصلة بدأت دموية و نارية من لحظتها الاولي و استمرت في دمويتها حتي الحظة (بعد شهر و أسبوع).. و انحاز فيها الجيش لقائده و الدعم السريع لقائده..

سبب هذه المفاصلة هو كذلك صراع نفوذ بين الرئيس البرهان و قائد المليشيا الضاربة القوة دقلو.. وهي امتداد لانقلاب ٢٥ اكتوبر الذي نجح في تحجيم نفوذ رئيس الوزراء حمدوك و تحالف قوي الحرية و التغيير.. فهذه المفاصلة امتداد لانقلاب اكتوبر الذي استند علي (اعتصام القصر) الشهير..

فكل القوي التي دعمت الانقلاب هي اليوم داعمة للبرهان في حربه.

اثار هذه المفاصلة قوية و مدمرة و دموية في الخرطوم و في عدد من الاقاليم (كردفان و دارفور) بينما لها ارتدادات اقتصادية و امنية في بقية اجزاء القطر السوداني..

و في هذه المفاصلة يغيب تماماً صوت القوي السياسية تحت هدير الرشاشات و المدافع و ازيز طائرات القصف.. تلك القوي التي تحاول ان تقف علي الحياد او تتوسط (لرأب الصدع).

بينما انحازت بقايا المؤتمر الوطني (حزب البشير الذي اسقطته الثورة في ٢٠١٩) لجانب الرئيس و لجانب الجيش و معهم تيار واسع من الرأي العام.

تاثير الرأي العام لن يكون كبيراً علي حرب خاطفة .. اما ان طال أمد الحرب فإنه سيكون مؤثر لكنه كذلك سيكون عرضة لتبدل المواقف و (الولاءات).

كذلك لم يتم استغلال العامل الديني في هذه المفاصلة و يبدو ان الحجج الدينية قد استهلكت تماماً منذ ما قبل المفاصلة الاولي.. و رغم الاعتماد من قبل الرئيس و جماعته علي شرعية مؤسسات الحكم و الدولة الحديثة؛ لكن لا يستبعد محاولة الاستعانة بالعنصر و العرق في مراحل لاحقة من الصراع.

#لاللحرب

١٩ مايو ٢٠٢٣م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم ت...

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بين...

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانته...