السودان و أزمة السد: من دعم الطموح الاثيوبي الي مشاركة المخاوف المصرية!
حتي وقت قريب كان موقف السودان اقرب الي تفهم الطموح الاثيوبي في التنمية و وصف الاعمال الانشائية بأنها حق مشروع لاثيوبيا في مياه النيل.. لكن تغير أخذ يطرأ، و يمكن ملاحظة ذلك التغير اعتباراً من بدايات العام ٢٠١٨م مع عودة صلاح قوش الي رئاسة جهاز المخابرات و الامن السوداني و صعود كمال عبدالمعروف الي رئاسة اركان القوات المسلحة ..
تفيد المتابعات ان عبدالمعروف استشاط في اول اجتماع له في وجه ضباطه قائلاً (شغل الحبش دا ما بنفع معاي) في اشارة الي سلسلة التفاهمات و البرتكولات العسكرية بين السودان و اثيوبيا و التي بلغت اوج التنسيق العسكري التدريبي و الاستخباري في الفترة من ٢٠١٢ الي ٢٠١٧م
اذاً التغير في الموقف السوداني من قضية سد النهضة كان ضمن اجندة نظام البشير (و ربما هذا ما يفسر تحمس اثيوبيا للتغيير الذي احدثته الثورة و دعمها -عبر اليات الاتحاد الافريقي- لانتقال يمثل قطيعة و تغير جذري لنظام البشير).
التغيير في الموقف السوداني الذي كان في اضابير قوش و عبد المعروف و (ابن عوف) ليس وليد دوافع وطنية، انما كان دفع لاستحقاقات اقليمية (لشركاء الحزم) الامارات و السعودية و استرضاء لهما بعد الاطاحة بمدير مكتب البشير و الذي كان بمثابة الحاكم الفعلي للسودان من ٢٠١٤م الي ٢٠١٧م ايضاً..
بالنسبة للسعودية و الامارات الانشغالات المصرية ليست مهمة جداً انما كانت هناك حاجة لتحفيز القاهرة علي اطاحتها بحكم الاخوان و مكافأتها لتواصل محاصرة النفوذ الاخواني.
بعد الثورة انتقل قوش للاقامة في القاهرة و من المحتمل ان يكون قد سلم حقيبة المهام الامنية التي بحوزته للمخابرات المصرية، قوش الان في جوار المصريين و يخشي من الملاحقة و يخاف ان تسلمه السلطات المصرية للسودان لذا لا يستبعد ان يكون قد ابدي كامل الاستعداد للتعاون و ابدي حسن النية.. و من المحتمل ان المصريين قد استغلوا الامساك باسرار السودان ليوظفوها في خدمتهم لذا في ملف السياسة الخارجية و الاقليمية تحديداً لم يظهر اي تغيير ثوري بل يبدو الامر و كأنه استمرار لتخبط التسعينات الأولي و اواخر العقد الثاني من الألفينات ( سنوات البشير الاخيرة حين انتقل من حلف ايران الي حلف الحزم مع استمرار دعمه لحكومة اخوان ليبيا و محاولة تهدئة جبهة تشاد و اريتريا و التحالف مع اثيوبيا مع اشعال جنوب السودان).
بعد الثورة انتقلت مهام جهاز المخابرات مؤقتاً لجهات عديدة من ضمنها (الاستخبارات) و مع محاولة ترميم جهاز المخابرات الا انها (ادارة المخابرات العامة) بقيت تحت مظلة المكون العسكري و من الواضح ان اضابير قوش - عبدالمعروف لقيت استحسان المكون العسكري لأنها تخدم اغراضهم الاستراتيجية المتمثلة في ضمان دعم مصر و محور الرياض - ابوظبي و من ثم السيطرة علي الاوضاع في سودان ما بعد الاطاحة بالبشير..
كانت الفشقة مجرد جرح قديم يمكن اعادة فتحه لتمرير الانتقال في الموقف من اثيوبيا و من سدها، قضية الفشقة كان يمكن بحثها سياسياً و دبلوماسياً بين الحكومة المدنية و وزارة خارجيتها مع الجانب الاثيوبي (هناك اتفاقات مكتوبة و اخري غير مكتوبة بين الاثيوبيين و حكومة البشير سمحت للاثيوبيين باستغلال اراضي الفشقة) لكن المكون العسكري آثر تصعيد الموقف عسكرياً لاحراج الاحزاب المتضعضعة اصلاً و المتطلعة مع ذلك في منتهي الانتهازية للسلطة، لذا فإن تغيير موقف السودان من اثيوبيا و سدها لم يتم في مباني وزارة الخارجية و لا في مباني وزارة الري انما في مباني استخبارات المكون العسكري وحده!
سبق التصعيد في الفشقة و اعقبه تنامي التفاهمات السودانية المصرية عسكرياً و تزايد المناورات المشتركة لتوفير الغطاء اللازم للانتقال في الموقف الوطني من دعم اثيوبيا الي تبني موقف مصر..
الضغط الامارتي نفسه و مبادرته الخاصة بالفشقة (صفقة الاستثمار) و ضغطها علي الجيش لصالح الدعم السريع من الراجح عندي ان غرضها كان ضمان اكتمال وقوع المكون العسكري و الحاضنة المدنية في الاحضان المصرية..
السؤال المهم هو بماذا سيفيد التحول الجديد مصر؟
فاذا كان التحول سيفيد المكونين العسكري و المدني (و ليس السودان) لجهة استتباب الامور له و تحكمه في مسار السياسة مستقبلاً و اقرار الاوضاع التي ترضي الجنرالات المتنفذين و من يخدمونهم!
من الواضح ان مصر لن تستفيد الشئ الكثير لجهة المياه! فموقف مجلس الأمن الاخير يمثل عدم اهتمام عالمي بانشغالات مصر و هذا ينضاف الي خفة الموقف المصري افريقياً و المتمثل في سير مبادرة و وساطة الاتحاد الافريقي..
اذاً المياه ليست الغاية في ذاتها، فاستقرار الاوضاع السياسية للسودان و ضمان اقرار حكومة مستقرة لا تشذ عن نسق حكومات المنطقة العربية "حكومات قابضة" بلا انتخابات او بانتخابات متحكم بها جيداً هو غاية القوي الاقليمية بما في ذلك مصر.
فالأزمة مع اثيوبيا ليس غايتها مياه النيل "و ان كانت هي السبب الظاهر للعيان" فازمة المياه سبب ممتاز توظفه مصر لتمتين نظامها السياسي و ترسيخ قدمه و اسكات و الغاء اي صوت ينادي بأي تعددية او انفتاح سياسي! و يمتد التوظيف لدعم اقامة اتوقراطية في السودان، فيما تدفع اثيوبيا ثمن الاستقرار السياسي لمصر و السودان، اذ ليس مستبعد ان تعتبر اثيوبيا توتير اقاليمها "التقراي و قمز-بني شنقول و قمبيلا" بسبب مصر و تعتبر التقارب السوداني المصري تحالف لذات الغرض و بالتالي تتخذ مواقف مناوئية و متباعدة مع السودان و هي التي كانت سباقة لتهدئة الامور عقب حداثة فض الاعتصام الشهيرة.
هذه الصفقة و مع كونها متعادلة (تضمن لفئة معينة حكم السودان و تمنع انتقال ديمقراطي يصبح نموذج اقليمي جاذب - مصلحة دول المحاور) الا ان استقرار السودان يبقي علي المحك؛ لأن اقامة استبداد جديد يعني بقاء الاحوال علي حال المراوحة، مع احتمال قيام ثورة او انتفاضة جديدة .. اما دول المحاور فقد اعتادت ان تحقق مصالحها بأقل التكاليف و لن تدعم استقرار دولة و لو علي سبيل اقامة نظام قابض حليف ان كان استقراره يقتضي ضخ مساعدات و استثمارات ضخمة!
أغسطس ٢٠٢١م
تعليقات
إرسال تعليق