التخطي إلى المحتوى الرئيسي

من يتبني شيطنة "البازنقر" غير العقل الغردوني!؟

  لم اطلع علي كتاب البازنقر (اجرام المؤسسة العسكرية السودانية) للكاتب عشاري خليل، و لا أنوي ذلك، و بغض النظر عن اقحامه لاسم و صورة الفريق شمس الدين كصورة لغلافه؛ فما فهمته هو انه يتبني وجهة النظر الاستعمارية التي روجت لها صحافة لندن عندما لم يكن للخرطوم و لا القاهرة صحافة .. 

فمثل هذه الكتابات تعكس ازمتنا الراهنة التي تتمثل في سوء فهمنا للواقع المعاصر و سوء تعاطينا معه النابع من سوء فهمنا للبعد التاريخي..

تاريخياً: من حارب البازنقر و عمل علي تفكيكها هو الجنرال البريطاني الذي قدم خدماته للحكومة المصرية الخديوية (الجنرال شارلس غردون)..

غردون و الصحافة البريطانية اعتبروا البازنقر و قائدها "الزبير ود رحمة" هو المسؤول عن تجارة الرقيق في العالم و وصفته الصحافة بأنه اكبر تاجر رقيق في افريقيا!

بريطانيا و الغرب الاستعماري كله اراد ان يتخلص من وصمة الرق التي تطاردهم بتعليقها في عنق الزبير وحده!

الغرب الاستعماري الذي بني نهضته (قبل اكتشاف الآلة) علي كاهل العبيد و ان ملايين و ملايين العبيد تم تصديرهم من جزيرة غوري (جزيرة العبيد) في السنغال حيث بوابة اللاعودة و من ليبيريا و من جنوب افريقيا و سائر سواحل افريقيا، ذلك العار الذي استهلته السفن البرتغالية ثم لحقت بها الاسبانية و الهولندية و الدنماركية و الفرنسية و البريطانية و الامريكية.. كل ذلك يراد تحميله للزبير و للسودان وحده باعتباره اصل وصمة و عار الرق و تجارة العبيد!

الاستنتاج البسيط (لو لم يتم اختراع الالة لما تم تحرير العبيد اطلاقاً) لا يريد احد التفكير فيه، بل يتم قبول الاستنتاج الفطير و هو ان تحرير الرقيق ناتج عن عظمة و تسامح و رحمة الانسان الابيض! هذه هي الدعاية الاستعمارية في ابسط صورها و التي قبلها الكثيرون بغباء!

للمفارقة قبل شهور قليلة ثارت ازمة في اميركا و اوروبا بسبب نُصب تزكارية لأكبر تجار الرقيق في العالم، و ترفض معظم الحكومات ازالة تماثيلهم من ساحات المدن و من اعرق جامعاتها التي تبرع لها أولئك التجار من مالهم الذي جمعوه بفضل اجساد و ارواح و دماء و عرق العبيد!

غردون (باشا) حارب الزبير و جنوده، و في ذاك الوقت لم يكن السودان يتبع لبريطانيا لكن غردون كان كمرتزقة "الفاغنر" يعمل لصالح خديوي مصر، و كان البريطانيون يتعصبون لفتاهم المدلل غردون.

اذن غردون الذي شيطن البازنقر هو نفسه غردون الذي تمت محاصرته في السرايا التركية المصرية "القصر الجمهوري حالياً" و قتل هناك و تم حمل رأسه للامام المهدي.

و الذين حاصروه و قتلوه كانوا في معظمهم من الجنود تحت امرة قادة من البازنقر.

لا أحد يهتم لحقائق من التاريخ مثبتة و واضحة و جلية و هي ان اهم القادة العسكريين في جيش الثورة المهدية كانوا قادة بازنقر :

- حمدان ابو عنجة من قادة البازنقر..

- عبدالرحمن النجومي من قادة البازنقر..

- الزاكي طمل من قادة البازنقر..

- محمود ود احمد من قادة البازنقر..

- النور عنقرة من قادة البازنقر ..

و لا احد يناقش فرضية ان الرقيق لا يمكن ان يصلحوا كجنود ولا ان يشكلوا جيشاً، مقولة عنترة بن شداد تصلح في هذا المقام حين طلب منه والده و الذي كان يعامله كعبد رقيق ان يشترك في معركة الدفاع عن القبيلة و ترجاه ان يشترك في الكر : (أ يكر العبد؟ العبد لا يحسن الكرار انما يحسن الحلب و الصِرار) فقال له والده كر و انت حر..

كيف يكون الرقيق جندياً مسلحاً و لا يستخدم سلاحه لتحرير نفسه اولاً؟!

و لا احد ينتبه الي ان للبازنقر يعود الفضل الرئيسي في ان يأخذ السودان شكله المعاصر و خارطته المعروفة (السودان القديم) قبل ان تطرأ خارطة نيفاشا. 

فالبازنقر هم الذين ضموا بحر الغزال للحكومة التركية، و هم الذين ضموا دارفور لسلطة الحكومة التركية في الخرطوم..

لا أحد يناقش واقعة ان اكبر تجار الرقيق كانوا من الاتراك و المصريين الذين ما دخلوا الي السودان الا لاستعباد اهله!؟

و ان نفوذ الزبير و قواته (البازنقر) جعلت أولئك التجار يحقدون عليه و يوغرون صدر الخديوي ضده!

لا أحد يناقش موقف غردون عندما اراد ان يعدل موقفه من الزبير و طلب اصطحابه في مهمته الأخيرة لاخلاء السودان و تعيينه ملكاً علي السودانيين؛ طلبه الذي رفضته حكومة بريطانيا التي وقعت تحت وطأة الخوف من صحافة لندن!

لا أحد يناقش عودة الزبير بعد احتلال جيوش كتشنر للخرطوم و مطالبته الحكومة المصرية بتعويض عن الخسائر التي لحقت به!

و لا الجنازة الرسمية التي اجرتها له الحكومة البريطانية المصرية بالخرطوم عند وفاته!

اسقاطنا لتصورات تاريخية غير منصفة علي الواقع (التصورات التي تتبني وجهة نظر غردون برمتها) تسبب في اتخاذنا مواقف معاصرة مختلة، فموقف السياسيين و "الناشطين" من المؤسسة العسكرية اتسم دوماً بعدم مسؤولية، فمن تورط الساسة في محاولات تسييس الجيش و استغلاله للهيمنة علي الحكم و السلطة الي الوقوف في موقف معادي له بالمطلق لمجرد ان قوي حزبية اخري سبقتنا اليه و جيرته لصالحها...

هنا أيضاً تكمن احدي اخطاء و علل قوي اعلان الحرية و التغيير (التجمع الوطني سابقا) و التي اعتبرت ان الجيش احد مؤسسات المؤتمر الوطني و لذا عزفت لا بل فشلت في تبني نظرية و سياسة معتدلة و متوازنة فيما يخص الامن القومي السوداني و الشؤون العسكرية و الدفاعية السودانية، مع ان السياسة و الحكم لا تقوم له قائمة دون وضع سياسة عسكرية و امنية موضوعية ....

يناير ٢٠٢٢م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تفكيك خطاب الحرب و (فلسفة البلابسة)

   الخطاب و الموقف السياسي المساند للحرب و الحسم العسكري و رفض التفاوض و رفض أي حديث عن تسوية سياسية سلمية يعتمد علي استقطاب و تحشيد العوام ممن لا خبرة و لا معرفة لهم بطبيعة الحرب ولا السياسة!    تحشيد العوام هذا خلق تيار جارف اخذ في طريقه حتي بعض "الانتلجنسيا" ممن لا قدرة لهم علي مواجهة العوام او ممن يظنون ان كل هذا الحشد لا يمكن الا ان يكون علي حق، فيحتفظ برأيه لنفسه او حتي يتخلي عنه و ينخرط مع التيار ..!!   في المقام الاول ان لخطاب العنف و التحريض و "الانتقام" جاذبيته؛ و ان للقوة و استعراضها سطوة، مثلما ان لصورة الضحية فعلها؛ اما اذا دمج خطاب الضحايا مع خطاب القدرة علي الانتقام فاننا نحصل علي سيناريو تقليدي للافلام "البوليودية" و كثيرون هنا تفتق وعيهم و انفتح ادراكهم علي افلام الهند! فما يحدث و ما يدعو اليه خطاب الحرب بالنسبة لهؤلاء مفهوم و مستوعب و في مدي تصورهم لذا يرونه ليس واقعياً فحسب بل و بطولي و مغري يستحق ان ينخرطوا فيه بكلياتهم. سؤال الطلقة الأولي: قبل ان يعرف الناس الحقيقة بشأن ما قاد الي هذه الحرب التي انتشرت في مدن السودان و ولاياته ان...

لماذا يفضل الملكيون العرب التعامل مع جمهوريي اميركا؟؟

  لا يخفي الملوك و الامراء العرب "و اعوانهم" ميلهم و تفضيلهم التعامل مع ادارات جمهورية في اميركا و لا يخفون تبرمهم من تنصيب رئيس من الحزب الديمقراطي.. و يبررون ذلك الميل و التفضيل بمبررات مختلفة مثل تعامل الجمهوريين الحاسم مع ايران !! في الواقع فإن اكثر رؤساء اميركان الذين شكلوا اكبر تهديد للعرب و المسلمين هم من الجمهوريين (بوش الأب و الإبن و ترامب - غزو العراق و افغانستان و دعم اسرائيل)! لكن الجمهوريين كما عرب النفط يفهمون لغة المال جيداً و الادارة الجمهورية تضم علي الدوام اشخاص من قطاع الطاقة و النفط او صناعة السلاح او الادوية او حتي صناعة الترفيه "هوليود" يفضلون لغة النقود و المصالح. اذاً اكبر تهديد واجهه العرب و المسلمون من ادارات اميركية كان في فترات حكم جمهوري.. و بعد الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م اعلن بوش الابن سياسة صارمة في مواجهة انظمة اسلامية و عربية (افغانستان و العراق و السودان) كما مارس ضغوط غير مسبوقة علي السعودية اسفر عنها اجراءات حازمة ضد الجماعات المتشددة من الأخيرة، و تغيير في مناهج التعليم المدرسي و الجامعي فيها! الجمهوري ترامب اقدم علي خطوات غير مس...

شرح قانون الوجوه الغريبة !!

  المقصود بقانون الوجوه الغريبة هو اوامر الطوارئ التي صدرت في بعض الولايات بعد اندلاع حرب ١٥ ابريل/الكرامة و خصوصاً بولايتي الجزيرة و نهر النيل.. و هي اما اوامر صدرت من الوالي شفاهة و علي رؤوس الاشهاد او مكتوبة و مفادها ملاحقة ما يعرف ب "المندسين" و الطابور الخامس و من يشتبه في انتماءهم او تخابرهم مع مليشيا الدعم السريع، حيث راج ان المليشيا تدفع بعناصر من استخباراتها و قناصيها الي المناطق التي تنوي احتلالها لتقوم تلك العناصر بالعمل من الداخل بما يسهل مهمة الاحتلال .. و تستهدف الملاحقات الباعة الجائلين و اصحاب المهن الهامشية، و أي شخص تشك فيه السلطات او المواطنين؛ و في اجواء من الارتياب بالغرباء غذتها دعاية الحرب تم الطلب من المواطنين التعاون بالتبليغ و حتي بالقبض و المطاردة علي من يرتابون فيه. قانون او تعاليمات (الوجوه الغريبة) اسفرت عن ممارسات متحيزة "ضد غرباء" تحديداً ينحدرون من اقاليم كردفان و دارفور في ولايات عدة (الجزيرة، و نهر النيل، و كسلا، و الشمالية)؛ فالوجوه الغريبة هي اوامر تأخذ الناس بالسحنة و الملامح؛ و هي ممارسات بالتالي اسوأ مما كانت تمارسه "مح...