حكومة اخوان السودان الذين استولوا علي السلطة ليلا في يونيو1989م واسموا فعلتهم تلك الانقاذ الوطني! كان لها من يومها الأول منطقها الخاص في التعامل مع الشعب و شؤون الحكم و مع الازمات و مع ( الأسرة الدولية ) ايضا..
منطق الانقاذ ظل سائدا وفاشيا طيلة تلك العقود الثلاث بينما منطق الاشياء و طبيعتها ظل منحسرا!
منطق الانقاذ في الاقتصاد اقتضي توزيع ريع الدوله و قسمته بين طائفة من المحازبين والمؤيدين انفقوها علي متعهم و ملذاتهم،
بينما منطق الاشياء في الاقتصاد يقول بصرف المال علي مشاريع التنمية لتدوم، و ينزل العائد و يتوزع بعدالة الي كل حسب عمله و كده و ذهاب قدر معلوم للاحتياجات الاساسية ( الامن و العلاج و التعليم ) لينعم الجميع فيه بقدر متساو.
منطق الانقاذ في شأن التوظيف والتشغيل والعمل يعتمد ان العمل منحة تجود بها السلطة علي من يوالونها و يناصرونها في الحق و الباطل،وتجود بها علي المحاسيب والاقارب؛ وعلي ان الوظيفة ليست مسؤولية ولا مهام ترتب واجبات بل هي ( ثغرة ) اي نقطة ضعف يمكن ان تتعرض السلطة عبرها لهجوم يسقطها او يهزها! و لذا علي من تسند اليه مسؤولية ( حراسة هذه الثغرة ) ان يحرص فقط علي بقاء السلطة و الا ينفذ اليها من خلال ثغرته اي نقد او منقصة!
بينما منطق الاشياء بهذا الصدد يقضي بأن العمل حق، و أن الوظائف تسند لمن هو اهل لها من حيث المعرفة والتأهيل والخبرة و السمات الشخصية ( الامانة و نزاهة اليد والضمير ).
و منطق الانقاذ الاجتماعي اقتضي افقار الطبقة الوسطي و البرجوازية الصغيرة و الارستقراطية الوليدة في السودان واحلال طبقة وسطي جديدة تماما محلها و برجوازية وارستقراطية جديدة! لضمان ولاء تلك الطبقة للسلطة و الدفاع عنها و لتقوم بالترويج للحكم للاسلاموي!
فيما منطق طبيعة الاشياء يقول ان الطبقات الاجتماعية لا تتشكل بقرار اداري و لا باجراء مالي، و لو منحت فقيرا كان معدما ملايين او حتي مليارات الدولار فانه سيبقي يتصرف اجتماعيا و سياسيا وثقافيا واقتصاديا و قانونيا حتي كفقير من الطبقة العمالية و ما هو دونها برغم ما لديه وما يملك!،
و بالفعل فان البرجوازية الانقاذية ظلت تجهل قيمة ما في يدها من امكانات كما ظلت تهدر تلك الامكانات والاموال بوتائر جنونية ما افقد البلاد الكثير و ارهق السلطة الناشئة بصورة خطيرة، فثقافة طبقات المجتمع لا تكتسب بين ليلة وضحاها بل هي تراكم خبرات عقود طويلة واجيال، و المال ايضا له منطقه الخاص الذي يعمل بمعزل عن اي تدخل خارجي!
وحتي شركات الانقاذ 'شركات الدولة و شركات المؤسسات العسكرية والامنية' ان بحثنا فيها سنجد ان الذين تولوا امر ادارة اموالها يمتون بصلة ولو بعيدة للطبقة الوسطي القديمة و معظم العاملين فيها يتحدرون من فئة البرجوازية الصغيرة وفي ظل حالة التعتيم وانعدام الشفافية والمساءلة والحساب فانهم يحققون مكاسب و يبنون امبراطوريات خاصة و يكونون ثروات ضخمة، فيما تجد ابناء العوام في التنظيم يقومون بالعمل الشاق والقذر وحدهم (العمليات الحربية والقمعية) ولا يجنون الا الفتات!
منطق الانقاذ في السياسة والحكم يقضي بتبني مقاربة امنية، فكل المشاكل تحل من وجهة نظر امنية صرفة، بل ولا يتم التعامل مع اي قضية سياسية الا اذا رأي التنظيم انها تفاقمت بما يجعلها تحدي امني! و لذا تضخم الجهاز الأمني الذي امسك بكل الملفات من اتخاذ القرار المحلي في الاحياء والاسواق و الأزقة الي قرار السياسة الخارجية، و من قرار الحرب والسلام الي قرار انفاذ القانون؛ بل والقوات الأمنية اقحمت نفسها في حروب الجيش و في عمل الشرطة ( الاعتقال و توجيه التهم و الاحالة القضاء )
فيما يقضي منطق الاشياء ان الشأن السياسي يعلو و لا يعلي عليه، وان القرار الأمني يجب ان يوضع تحت تصرف السياسي و يخضع للتقدير السياسي، فالسياسة هي الأولي والاقدر علي تسوية الأزمات و حلحلة العقد والمشاكل، وان العامل الامني يجب ان يوضع في حيزه، و الجهاز الأمني يجب ان يكون محددا في نطاق محصور ( غير مترهل ) و بعدد محدود من العناصر المؤهلة تأهيلا عاليا والقادرة علي انجاز و اداء المهام المعقدة و بأقل الامكانات و باقل السلطات والصلاحيات و دون حتي ان يشعر بها احد.
منطق الانقاذ في القانون والادارة يقضي بأن القانون يفصل علي مقاس الحاكم و ان ضاق او اتسع فبامكانه التخلي عنه، فالقانون في عرف ( الانقاذيين ) شرع ليحكم الرعية و لا يلزم ( الرعاة ) بل يخرقونه متي ما ناسبهم ذلك ويعدلونه متي ما ارتأوا و يحدث ان يعدل القانون خلال العام مرتان وثلاثة، و بملاحظة عابرة فان السيارات التي تسير بلا ترخيص و بلا لوحات هي سيارات اجهزة انفاذ القانون والسيارات التي تخرق قوانين السير هي ذاتها، و ملاحظة ان جرائم منسوبي القوات النظامية داخل المدن في تزايد مضطرد و هي متفاوتة بين الاتجار في المخدرات والسلاح الي النهب و القتل هذا بغض النظر عن جرائم الرشي و تجاوز السلطة و استغلال النفوذ، اما جرائمها في مناطق النزاعات فملفها يتنقل بين مجلس الأمن و المحكمة الجنائية الدولية!
فيما منطق الاشياء يقتضي ان القانون يجب ان يكون مستقرا و معروفا و مبسطا و متاحا للبسطاء الاطلاع علي احكامه اينما كانوا، كما يجب ان يسود فوق الجميع و ان يتساوي كل الناس امامه لا فرق بين فقير او غني و بين محكوم وحاكم. و ان التزام الدولة بالقانون مقدم علي التزام المواط و دليل علي خضوعها لحكم القانون كمبدأ قانوني رئيس.
منطق الانقاذ ظل مهيمنا اغلب الاوقات السودان خلال العقود الثلاثة ( 1989-2019 ) لكن هيمنته ليست مطلقة فهذا المنطق لا يسود الا جبرا و بالاكراه و تحرسه القوة ليل نهار، ومع ذلك لا يلبث منطق الاشياء يسود في كل سانحة يغفل فيها حراس منطق الانقاذ او يسهون، فالفرض والجبر لا يصنع منطقا و لا يمكن ان يطبعه مهما اجتهد المجتهدون، اذ المنطق يعمل بقوته الذاتية و بقدرته علي الاقناع حتي يتبناه الناس طوعا، اما المنطق المفروض بالاكراه فانه الي زوال مهما تتطاول به العهد، و قريبا سيسقط منطق الانقاذ امام منطق الاشياء بالضربة القاضية او بالنقاط او بكليهما.
تعليقات
إرسال تعليق