ذات الذين كان يصعب عليهم تصور امكانية اسقاط حكم البشير بعمل سياسي شعبي و سلمي و مظاهرات طفقوا بمجرد سقوطه ينسجون سيناريوهات زائفة و وهمية كلها تشترك في انها تنتقص من دور العمل الشعبي و تنسب العمل كله أو معظمه الي هذا الشخص أو ذاك و هذا الطرف..
أول تلك السيناريوهات هو القائل ان صلاح قوش هو المخطط لكل الثورة و هو "عراب و راعي" تجمع المهنيين، و هو من سهل وصول المحتجين الي القيادة!
ثم هناك السيناريو القائل بأن متنفذين كبار في الحركة الاسلامية ساءهم ان يمدد البشير ولايته و يترشح للرئاسة للمرة الخامسة أو السادسة لا ادري و قرروا اثارة الشارع ضده و تأجيج ثورة شعبية و عبر ازرعهم في الاجهزة الأمنية تواطأوا مع الشارع حتي إسقاط البشير في الحادي عشر من ابريل 2019م !!
و غير ذلك من سيناريوهات تنطلق من خيال غير خصب "و الخيال اياً كان لا يفيد في قرأة الاحداث و لا ينفع"! و كلها تبخس الشعب مجهوده و تقلل من شأن شابات و شبان اجتهدوا في تخطيط و ادارة معركة الشارع ضد مليشيات الامن و كتائب ارهاب السلطة!
صحيح ان البشير و اركان سلطتهم ارتكبوا سلسلة من الاخطاء القاتلة و ساهموا بذلك في سقوط "ملكهم" إلا ان ذلك لا يجعل منهم اصحاب مشروع الثورة أو حتي مساهمين فيها!
إعادة صلاح قوش و لرئاسة الأمن و عبد المعروف لقيادة اركان الجيش تمثل في ذاتها احد اكبر اخطاء البشير و نظامه.. فمن الخطل ان تسند امر حساس و هام لاشخاص سبق و إن خونتهم و اطحت بهم أو قللت من مكانتهم و اهميتهم! اذ ان الثقة تهتز بينك و بينهم و لن يتفانوا في حمايتك كما السابق..
لكن بطبيعة الحال لم يعيد البشير تنصيب قوش الا بعد ان اطمأن الي أنهم في مركب واحد و انه لا يستطيع و لا يملك القدرة علي الغدر به مجدداً..
كيف لقوش الذي عجز عن إحداث تغيير و "تنفيذ" انقلاب يوم ان كان في رأس النظام و رأس اجهزته الامنية؟! و تم تجريده من السلطة و القاءه في الحبس! كيف له و قد عجز عن إحداث تغيير في السلطة ان يحدث تغييراً و هو في رأس السلطة الأمنية و عبر الشارع، ذات الشارع الذي شارك في قمعه و تعذيب المعتقلين الثوار حتي الموت؟! لا يمكن لمن ادمن اسلوب القبضة الأمنية ان يراهن علي ثورة شعبية ..
اكبر دليل علي ان ليس لقوش صلة بالتغيير هو ان جهاز امنه اعتقل أكثر من الفي "متظاهر محتمل" قبل ساعة الصفر المحددة بالساعة الواحدة ظهراً يوم السادس من أبريل ٢٠١٩م (ظناً منهم أنهم بذلك يجهضون التظاهرة) لكن فاجأهم طوفان الاجساد البشرية الذي غطي شوارع الخرطوم مع حلول موعد التظاهرة، ثم القمع الشديد بعدها، و كذلك مكوث المتظاهرين الذين تحولوا الي معتصمين لأسبوع كامل (من نهار السبت الي فجر الخميس) امام مقر وزارة الدفاع و رئاسة اركان القوات المسلحة، هل ايضاً رتب قوش امر ذلك الاعتصام.. لو ان فتح الطريق الي القيادة و موكب يوم ٦ ابريل هو ما أطاح بالبشير لخرج بيان الانحياز بعد ظهيرة ذلك السبت مباشرة أو علي الاقل مع مغرب شمس ذلك اليوم و لم يستغرق اسبوع كامل كان البشير و جهاز امنه و أعوانه في الجيش و أنصاره في الحزب الذي زعم أنه سيقف منه علي نفس المسافة من باقي الأحزاب يبحثون بلا جدوي سبل تفريق ذلك الحشد العظيم !!
كذلك من أدلة أن ليس لقوش صلة بثورة التغيير هو اضطراره الي الهروب من البلد لأن مكانه المناسب هو برفقة رئيسه و بطانته في السجن.. و إن كان يريد ان يكون له دور مستقبلاً فان ذلك يمر عبر طريق واحد هو ان يعود الي الوطن و يسلم نفسه للسلطة العدلية و ان يتعاون معها تعاون مطلق و يكشف كل ما عنده من بينات و وثائق و افادات و مستندات "كشاهد ملك" و إن يقضي العقوبة التي تقررها المحكمة و بعدها يحق له ان يعود للمشهد السياسي ..
أما الزعم بأن "الاسلامويون" هم من رتبوا للاطاحة بالبشير فيدحضه ان ذات الاسلامويين فشلوا في الزام البشير بالتنحي "حسب اتفاقهم الانقلابي" و تسليم السلطة للشيخ العراب، و حتي عندما ضاق بالشيخ و ضاق الشيخ به تنكب الاسلامويين الطريق و اختار معظمهم طريق السلطة القصير بينما اسقط في يد الشيخ و عجز عن انهاء هذا الوضع الذي اقامه بيده و دخل في دوامة من النزاع و الصلح و الصراع و الحوار حتي قضي نحبه دون ان يحقق مراده!
لم يحسب البشير و لا اركان حكمه و لا خصومه ايضاً حساب الشارع و الشعب و لم يقدروا مؤسسات الشعب (بما فيها الجيش و قوات الدعم السريع) قدرها، فالشعب اذا "انكرب" فان كل مؤسساته لا خيار لها إلا ان تنكرب.
هشاشة الوضع السياسي هو ما اغري البعض لنسج سيناريوهاتهم لعل الناس يصدقونها و يتصرفون علي اساسها فتقودهم تلك الاكاذيب للتربع علي عرش السلطة السياسية من جديد !!
و صعوبة و عسر الانتقال هو ما اغري اخرين لتأليف سيناريوهات تضعهم كفاعلين اساسيين في المشهد الذي استجد و حكم بابعادهم!
أمن المؤتمر الوطني بطبيعة الحال تغول و حكم المؤتمر نفسه و بقبضته القاسية و اساليبه الملتوية بث اذرعه الاخطبوطية داخل معظم الاحزاب.. فباسلوب التغويص تمكن من من التنفذ داخل معظم الاحزاب، و اليوم تفكك المؤتمر و تقلص تأثير جهاز الامن لكن من بيده خيوط لعبة "المندسين" يمكن ان يحظي بتأثير ولو لحظي و ينشط في نسج أو الترويج لسيناريوهات زائفة.
اعداء التغيير و الثورة يجهدون اليوم في تضخيم الصعوبات و ربما حتي في اختلاق بعضها و كل ما نجحوا فيه هو "تحييد المحائدون" ان الذين صعب عليهم تصور ان نظام البشير يمكن ان يسقط و بثورة سلمية.. هؤلاء هم من يهمهمون الأن بأن الاوضاع زادت سوءاً عما كانت عليه ايام البشير و بعضهم قد يتحسر حتي علي تلك الايام، هؤلاء لا أثر لهم و لا تأثير لأنهم لا يرون ابعد من انوفهم و يمتلكون ذاكرة عشوائية قصيرة للغاية، لا احد منهم يمكنه ان يتصور و لا ان يحسب معدلات الزيادة في الاسعار و الانهيار في العملة التي حدثت في اول سنوات الانقاذ يوم ان كافحت الندرة الشديدة بالغلاء الفادح، و لا يفهمون اسرار تبديل العملة الاول و الثاني و الثالث و التحول الي الدينار و العودة إلي الجنيه و سحب الصفر و الصفرين!! و هؤلاء علاوة علي كل ذلك لا يملكون اي مقترحات حلول لا لأنفسهم و لا للحكومة! كما ليسو علي استعداد لفعل اي شئ لتغيير ادني شئ!!
وعلي كل حال لا الاكاذيب و التدليس الذي حكم البلد لثلاثة عقود أو اكثر و لا اسلوب التغويص ستجدي في تحديد ملامح المرحلة القادمة و لن تسود مجدداً، فما بعد ثورة ديسمبر ليس كما قبله لو يعلم الجاهلون.
------------------
ديسمبر ٢٠٢٠م
تعليقات
إرسال تعليق