التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بروقراطية العدالة الجنائية الدولية

      فيما كان الناشطين السودانيين يأملون ان تكون احالة ملف جرائم دارفور الي الجنائية الدولية (٢٠٠٤م) بداية لإنهاء الفظاعات و تحقيق العدالة و السلام، و ان يكون توجيه التهم لقيادات نظام البشير (و البشير علي رأسهم) في مارس ٢٠٠٩م نهاية لأزمة دارفور و ازمات السودان .. 

الا ان تلك الاحالة، و توجيه الاتهام، كان بمثابة عقدة العقد التي انضافت للمشهد السوداني ..

فالبشير حكم بعد توجيه الاتهام اليه عشرة سنوات كاملات بمزيد من العسف و التشبث بالسلطة، و خمسة عشر عام منذ قرار احالة الملف !!

و حتي بعد الاطاحة بنظام البشير في ثورة مدنية سلمية مبهرة رفعت شعار السلام و العدالة، فشلت هيئة المحكمة الجنائية الدولية و (مكتب المدعي العام تحديدا) في المساعدة في تحقيق عدالة وطنية، او مختلطة، او دولية في دارفور (و السودان من ثم) ..

التطور الوحيد الذي حدث لملف الجنايات الدولية هو ان المتهم علي عبدالرحمن "كشيب" سلم نفسه لمدعي المحكمة و مثل امامها؛ و هو فعل ذلك بمحض ارادته لأنه خشي علي نفسه من التصفية في السودان؛ فالمجموعة "العسكرية" الحاكمة بعد التغيير لن تحمي جميع المطلوبين، انما ستحمي كبار السياسيين من جماعة المؤتمر الوطني، اما العناصر الاقل اهمية من ناحية سياسية فستسعي للتخلص منهم، "كشيب" عرف ذلك بحسه البوليسي، و اختار ان يذهب الي لاهاي عوض ان يذهبوا به الي الآخرة. 

و بعد الانقلاب الذي اطاح بحكومة الانتقال المدني في اكتوبر ٢٠٢١م تراخت هيئة المحكمة و الادعاء العام الخاص بها، في ممارسة أي ضغط قانوني علي الحكومة العسكرية، التي قادت البلاد الي مزيد من الافلات من العقاب، ثم الي حرب شاملة، تجاوزت اقليم دارفور الي العاصمة، و كردفان، و الاقليم الاوسط، و اطراف من الاقليمين الشرقي (الفاو)، و الشمالي (منطقتي مروي التاريخية و مروي المعاصرة) ..

لقد شعرت حكومة الانقلاب (و الحرب) باريحية جراء تراخي المحكمة، فقامت بعد الحرب و بحجتها، باطلاق سراح المطلوبين للعدالة الدولية من سجون الخرطوم.

الأن و بعد ان تفشت الانتهاكات، و الفظائع، في كل اقاليم السودان؛ و في اثنتي عشر ولاية من ولايات السودان الثمانية عشر، فان المحكمة الجنائية منحت نفسها الحق في نظر الانتهاكات التي وقعت في اقليم دارفور، و تحديدا في ولاية غرب دارفور، و في عاصمتها الجنينة بتحديد ادق، و بعد الخامس عشر من ابريل ٢٠٢٣م، و قررت فتح (تحقيق جديد)، و ذلك بموجب التفويض القديم ذاته الصادر لها من مجلس الامن الدولي!

ان الاجتهاد القانوني الذي تفتقت عنه (عبقرية) مدعي محكمة الجنايات الدولية(لفتح تحقيق جديد باعتبار ان تفويض ٢٠٠٤م لم ينقضي و ان ولايتها علي دارفور مستمرة) لا يستند الي شئ، خلاف حالة الضعف القانوني و السياسي الذي تردت اليه الدولة في السودان!

فعلي خلاف حالة المناهضة التي واجهت بها الدولة قرار الاحالة و توجيه الاتهامات في حينها؛ فإن الحكومة السودانية اليوم تريد من (التفويض الممدد) ان يدين المليشيا التي تحاربها.. لذا سكتت عن قرار المحكمة بتمديد تفويضها ليشمل أي جريمة حرب تقع في دارفور!!

 ان قرار المحكمة بتمديد تفويضها لهو قرار محير من الناحيتين القانونية و السياسية.. فالمحكمة لم تعلن عن أي اجراءات بخصوص جرائم في دارفور منذ جرائم بداية الأزمة (٢٠٠٢ و ٢٠٠٣م) و التي وجهت بموجبها تهم لأحمد هارون، و علي كوشيب، و موسي هلال، و عمر البشير و آخرين لم تسميهم)..

هل يفهم من ذلك ان الاقليم لم يشهد أي جرائم حرب و جرائم ضد الانسانية و جرائم تطهير عرقي منذ ٢٠٠٣م، او علي الاقل منذ توجيه الاتهامات في ٢٠٠٩م؟

اذن بماذا صنفت محكمة الجنايات حوادث (تابت) و (نيرتتي) و الجنينة في ٢٠٢٠م، و ٢٠٢١م، و ٢٠٢٢م، و غيرها من الحوادث التي ظلت تتكرر في الاقليم؟؟

و بأي حق تمنح المحكمة نفسها سلطة تمديد تفويضها زمانياً بلا حدود (منذ ٢٠٠٢م و الي الأن بل و الي المستقبل)، و لا تمنح نفسها سلطة تمديد تفويضها مكانياً طالما ان من يرتكبون الجرائم في دارفور يصدرون تعليماتهم من الخرطوم !! و ان ضحاياهم يمكن ان يكونوا (دارفوريين و لكن يقيمون خارج الاقليم)؟؟ و ان افعالهم لها ابعاد و انعكاسات و ارتدادات خارج الاقليم؟

ان الاسلوب البروقراطي الذي يتصرف به مدعي المحكمة الدولية يدفعنا للاعتقاد بانه مجرد موظف اداري بليد،و ان قضاتها كذلك؛ و ليسو حراس مؤتمنين علي العدالة الدولية!  

و ان تجربة السودانيين مع عدالة الجنايات الدولية، و التأثيرات السلبية لها علي الصعيدين القانوني و السياسي، تجعلنا نتوجس من أي دخول لها علي خط الازمة الحالية و في المستقبل لكونها لن تعدو كونها عقبة في وجه العدالة و السلام و ليست طريقاً للانصاف و التعويض و السلام.

............................. 

فبراير ٢٠٢٤م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تفكيك خطاب الحرب و (فلسفة البلابسة)

   الخطاب و الموقف السياسي المساند للحرب و الحسم العسكري و رفض التفاوض و رفض أي حديث عن تسوية سياسية سلمية يعتمد علي استقطاب و تحشيد العوام ممن لا خبرة و لا معرفة لهم بطبيعة الحرب ولا السياسة!    تحشيد العوام هذا خلق تيار جارف اخذ في طريقه حتي بعض "الانتلجنسيا" ممن لا قدرة لهم علي مواجهة العوام او ممن يظنون ان كل هذا الحشد لا يمكن الا ان يكون علي حق، فيحتفظ برأيه لنفسه او حتي يتخلي عنه و ينخرط مع التيار ..!!   في المقام الاول ان لخطاب العنف و التحريض و "الانتقام" جاذبيته؛ و ان للقوة و استعراضها سطوة، مثلما ان لصورة الضحية فعلها؛ اما اذا دمج خطاب الضحايا مع خطاب القدرة علي الانتقام فاننا نحصل علي سيناريو تقليدي للافلام "البوليودية" و كثيرون هنا تفتق وعيهم و انفتح ادراكهم علي افلام الهند! فما يحدث و ما يدعو اليه خطاب الحرب بالنسبة لهؤلاء مفهوم و مستوعب و في مدي تصورهم لذا يرونه ليس واقعياً فحسب بل و بطولي و مغري يستحق ان ينخرطوا فيه بكلياتهم. سؤال الطلقة الأولي: قبل ان يعرف الناس الحقيقة بشأن ما قاد الي هذه الحرب التي انتشرت في مدن السودان و ولاياته ان...

لماذا يفضل الملكيون العرب التعامل مع جمهوريي اميركا؟؟

  لا يخفي الملوك و الامراء العرب "و اعوانهم" ميلهم و تفضيلهم التعامل مع ادارات جمهورية في اميركا و لا يخفون تبرمهم من تنصيب رئيس من الحزب الديمقراطي.. و يبررون ذلك الميل و التفضيل بمبررات مختلفة مثل تعامل الجمهوريين الحاسم مع ايران !! في الواقع فإن اكثر رؤساء اميركان الذين شكلوا اكبر تهديد للعرب و المسلمين هم من الجمهوريين (بوش الأب و الإبن و ترامب - غزو العراق و افغانستان و دعم اسرائيل)! لكن الجمهوريين كما عرب النفط يفهمون لغة المال جيداً و الادارة الجمهورية تضم علي الدوام اشخاص من قطاع الطاقة و النفط او صناعة السلاح او الادوية او حتي صناعة الترفيه "هوليود" يفضلون لغة النقود و المصالح. اذاً اكبر تهديد واجهه العرب و المسلمون من ادارات اميركية كان في فترات حكم جمهوري.. و بعد الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م اعلن بوش الابن سياسة صارمة في مواجهة انظمة اسلامية و عربية (افغانستان و العراق و السودان) كما مارس ضغوط غير مسبوقة علي السعودية اسفر عنها اجراءات حازمة ضد الجماعات المتشددة من الأخيرة، و تغيير في مناهج التعليم المدرسي و الجامعي فيها! الجمهوري ترامب اقدم علي خطوات غير مس...

شرح قانون الوجوه الغريبة !!

  المقصود بقانون الوجوه الغريبة هو اوامر الطوارئ التي صدرت في بعض الولايات بعد اندلاع حرب ١٥ ابريل/الكرامة و خصوصاً بولايتي الجزيرة و نهر النيل.. و هي اما اوامر صدرت من الوالي شفاهة و علي رؤوس الاشهاد او مكتوبة و مفادها ملاحقة ما يعرف ب "المندسين" و الطابور الخامس و من يشتبه في انتماءهم او تخابرهم مع مليشيا الدعم السريع، حيث راج ان المليشيا تدفع بعناصر من استخباراتها و قناصيها الي المناطق التي تنوي احتلالها لتقوم تلك العناصر بالعمل من الداخل بما يسهل مهمة الاحتلال .. و تستهدف الملاحقات الباعة الجائلين و اصحاب المهن الهامشية، و أي شخص تشك فيه السلطات او المواطنين؛ و في اجواء من الارتياب بالغرباء غذتها دعاية الحرب تم الطلب من المواطنين التعاون بالتبليغ و حتي بالقبض و المطاردة علي من يرتابون فيه. قانون او تعاليمات (الوجوه الغريبة) اسفرت عن ممارسات متحيزة "ضد غرباء" تحديداً ينحدرون من اقاليم كردفان و دارفور في ولايات عدة (الجزيرة، و نهر النيل، و كسلا، و الشمالية)؛ فالوجوه الغريبة هي اوامر تأخذ الناس بالسحنة و الملامح؛ و هي ممارسات بالتالي اسوأ مما كانت تمارسه "مح...