التخطي إلى المحتوى الرئيسي

القوانين الحاكمة لاستقرار و تطور و "جمود" المجتمع السوداني

   لكل مجتمع قواعد و اعراف و قوانين غير مكتوبة غالبا تحكم العلاقة داخله بين مكوناته المختلفة، و تقرر الوتائر التي يتم بها التقدم والتغيير و الطفرات والثورات الاجتماعية.    في السودان تمثل مجموعة القيم الدينية و مجموع الامثال الشعبية و الحكم و المقولات المسجوعة مدونة القوانين التي تضبط حركة المجتمع و تحدد هامش تطوره و تقدمه.    مجموعة القيم الدينية الحاكمة هنا هي ما يمكن ان نطلق عليه الدين الاجتماعي-الشعبي، اي السمة الغالبة لتدين العوام ايا كان انتماءهم الديني ( دين سماوي؛ اسلامي او مسيحي/ او معتقدات محلية وثنية..الخ ) فالتدين هنا ليس متصلا بالدين في حقيقته ( المأخوذ من نبعه الصافي بتعبير الفقهاء ) انما الدين وفق ما يتصوره العوام و يفهمونه او يتمنونه.     دين العوام في الغالب هو مزيج وخليط من المعتقدات المتحدرة من مختلف الاديان والعقائد! فبعضها نصوص صريحة قطعية و بعضها تأويلات و اجتهادات فقهية مدرسية؛ و بعضها مقولات لممارسات اجتماعية قديمة ترسخت عبر قرون طويلة.. و حتي المقولات والاجتهادات الرصينة غالبا ما تكون ترسخت بفضل اجتهاد اصحاب مدرسة فقهية معينة و بفضل دعم و توظيف سياسي معين ولغرض سياسي بين.    اما مجموعة الامثال و الحكم الشعبية المقولات المسجوعة فهي نتاج تجربة شعبية، و هذا يعني انها نتاج تجربة لاشخاص مختلفين و ذوي امزجة مختلفة و عاشوا بيئات مختلفة و في ازمان مختلفة ايضا.. و الرابط الوحيد بينها انها كلها بيئات لم توفر لساكنيها اي قدر من المعرفة العقلانية انما في الغالب هي معارف و علوم من العصور الوسطي و ما قبلها .. معارف تمجد الاساطير و تدمن الخرافة، تعلي من شأن التسليم-و الايمان فتضعه في خانة اليقين و تحط من شأن الشك و التسأولات و تضعها في خانة الكفر و سوء الادب.. فهي وثيقة الصلة بالدين بحكم موقع الدين المركزي في ثقافة المجتمع و يلاحظ كذلك انها ( المقولات الشعبية ) تصاغ عمدا او عفوا في صيغ سجع شبيه بقوالب التعبير و الالفاظ الدينية و بسجع شبيه بسجع الكهان و بصيغ اقرب لصيغ الاحاديث و المأثورات الدينية!    كما انها في الاغلب تكون مزيج من العقائد الدينية المختلفة بعضها مما هو سائد اليوم و معظمها من العقائد التي غبرت قبل الاف السنين.
   كل هذا يقود الي خلاصة واحدة ان هذه ( المقولات ) لا تصب في معين واحد و لا تؤدي لخلاصة واحدة و لا تؤشر لشئ عدا التناقض والتضارب و من ثم تؤدي كلها لنتيجة واحدة هي جمود المجتمع و سكونه
و فقدانه للحيوية الضرورية للنهوض و التقدم و ارتهانه لكل ما يدعم الرجعية.    ليس غرض هذه المقالة حصر المقولات الشعبية هذه، فهي تحتاج لمجلدات حتي تحيط بها ناهيك عن ان تتعقب منشأها و تشرح مراميها و ابعاد تأثيرها! وليس كلها سئ الاثر بالمناسبة فبعضا يمثل وجه من خلاصات الحكمة الشعبية، لكن علي سبيل الحصر؛ اليك بعض الامثال التي تعيق التطور و ترسخ الجمود: - جناً تعرفه و لا جناً ما تعرفه!   اي ان الاضطراب العقلي الذي اختبرته و اعتدت عليه افضل من ذاك الذي لم تختبره! يضرب المثل للحض علي احتمال امر ما و ان كان في احتماله اذي تخويفا من اذي مجهول! وهنا حض صريح علي عدم تجريب الجديد و الابقاء علي القديم ولو كان سيئا!   و يمكن اعتبار هذا المثل هو مصدر شرعية العديد من الانظمة السياسية في السودان فهي جناً يعرفه الناس! 
- شقي الحال البقع في القيد!
  أي ان الخطأ ليس في فعل ما هو خاطئ انما في انكشاف امره، وهذا اقرار بأن الجميع يرتكبون المخالفة لكنهم ليسو اشقياء فالشقي من يتم قبضه بالجرم المشهود.. او ان الجميع يقع منهم فعل جنوني (باعتبار ان الجنون هو السبب الاول لوضع القيود في الارث والثقافة السودانية القديمة) لكن الشقي منهم من يلاحظ الناس اختلاله و جنونه فيضربون علي يديه و قدميه القيود. - كل ما يعجبك و البس ما يعجب الناس! 
  وهذا مثل اخر يدعو للمراءاة والنفاق، او في افضل الاحوال مسايرتهم. هل الأكل واللبس وظيفتهم العجب! الاكل وظيفته ان يوفر الطاقة للجسم اي ان ينفع الجسد واللبس وظيفته الستر و الحماية من الحرارة او البرودة والاتربة و اشعة الشمس و المطر..الخ لذا الأولي ان تكون الحكمة كل ما ينفعك و ألبس ما يسترك-يحميك. - تغلبها  بالمال وتغلبك بالعيال.. يغلبك بالمال و تغلبي بالعيال!     ويقال لتهنئة العروسين و كأن وظيفة الأسرة هي المال والبنون فقط، صحيح هما من زينة الحياة لكن واجب الرجل حيال زوجته ليس ان يغلبها بالمال و واجب الزوجة حياله ليس ان تغلبه بالعيال فيصبح محمولا مدحورا!! وظيفة الزواج هو السكن لكلا الزوجين والرفقة والسند لمجابهة تقلبات الحياة في جميع احوالها "السراء والضراء" كما في عهود الزواج التي تتلي في الكنائس.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم تفريغ الجامعات والمعاهد من اي مضمون واضحت الدرجات العلمية مجرد القاب مملكة في غير موضعها...     فاحاديث الرجل لا توحي بشئ في هذا المضمار.. التخصص، كما ان المعلومات المتوافرة في قصاصات الصحف ولقاءات الاذعة لم تفصح عن شئ ايضا!    السيرة الذاتية المتوافرة علي موقعي البرلمان السوداني 'المجلس الوطني' و البرلمان العربي تقول ان البروف-الشيخ حاصل علي بكالريوس العلوم في الفيزياء و ايضا بكالريوس الاداب-علوم سياسية من جامعة الخرطوم! ثم دكتوراة فلسفة العلوم من جامعة كيمبردج. اي شهادتين بكالريوس و شهادة دكتوراة. مامن اشارة لدرجة بروفسير "بروف" والتي يبدو ان زملاءه في السلطة والاعلام هم من منحوه اياها!!    سيرة ذاتية متناقضة وملتبسة تمثل خير عنوان للشخصية التي تمثلها وللادوار السياسية والتنفيذية التي لعبتها!    ابرز ظهور لشخصية الشيخ-البروف كان ابان صراع و مفاصلة الاسلاموين، حينها انحاز البروف لف

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بينها ع

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانتهازيين علي اختلاف مشاربهم ( مؤتمر وطني، و مؤتمر شعبي،اخوان مسلمين، سلفيين، سبدرات، وابوكلابيش، والراحل شدو، اتحاديين الميرغني، و حاتم السر، و الدقير، و احمد بلال، واشراقة سيد، و احزاب امة مسار، و نهار، و مبارك المهدي، وحسن اسماعيل.. الخ ) و غيرهم يحاولون جميعا تصوير الأمر علي انه يعني سقوط البشير لوحده!   البشير لم يسقط وحده، فهو يرمز لعهد باكمله، و يرمز لاسلوب في الحكم و الإدارة وتسيير الشأن العام ( السياسة )، و بسقوطه سقط مجمل ذلك العهد و اسلوب الحكم و السياسة و الادارة..   و سقط ايضا كل من اعانوه او اشتركوا معه و كانوا جزء من نظامه في اي مرحلة من مراحله المقيتة. و حين تقوم مؤسسات العدالة وتنهض لاداء دورها سيتم تحديد المسؤوليات بدقة و بميزانها الصارم و سيتم توضيح ( من فعل ماذا؟ و من تخاذل متي؟ ). البشير لم يحكم وحده حتي وان استبد في اخريات ايامه و سنوات، بل كان له مساعدون و اعوان في ذلك الاستبداد و داعمين لان