التخطي إلى المحتوى الرئيسي

استقلال القضاء

  ضجة اثارها قرار انهاء تعاقد نحو ثلاثين قاضيا انتهت خدمتهم بدخولهم سن المعاش لكن ظلت السلطة القضائية تستخدمهم بنظام عقود العمل لا قانون الخدمة العامة،
  البعض اعتبر هذا القرار الذي يستند بدوره علي قرار من رئيس الجمهورية يفيد ذات الاتجاه ( الالتزام بانهاء خدمات من بلغوا سن المعاش بكل دواوين الدولة ) اعتبر ذلك بمثابة تخلي عن استقلال القضاء، فهل مجرد انهاء الخدمة لقضاة بلغوا سن المعاش يعتبر انتهاك لمبداء العزل ( عدم عزل القضاة )؟ ثم والسؤال الأهم؛ هل القضاء في السودان مستقل اصلا؟؟
و لنبدأ من الشق الثاني للسؤال؛ استقلال القضاء ليست عبارة انشائية بل مبدأ يمكن اختبار صدقيته و واقعيته عبر التأكد من انطباق سلسلة من القواعد القانونية المنصوص عليها دوليا و دستوريا و في القانون الوطني والمتعارف عليها.. و عبارة ( القضاء السوداني مشهود له بالاستقلالية والنزاهة و الحياد.. ) لطالما سمعناها و غضينا النظر و كنا كمن يغضه علي قذي في عينيه و يتكتم علي داء عضال ينخر عظامه وجوفه! فاولا: و رغم صعوبة تمكن جهاز قضائي من الحفاظ علي استقلاليته في ظل نظام حكم لا ديمقراطي و لا يقيم وزن لمبدأ لحكم القانون.. فان من الاستحالة ان يحتفظ جهاز قضائي باستقلال في ظل نظام لا يقيم وزن لمجمل قواعد الدولة الحديثة كما يفعل نظام الاسلاميين في السودان اليوم، اذ علاوة علي ان السودان ظل يرذح تحت ظل حكم دكتاتورية خلال الخمس عقود الأخيرة؛ مع فترة استراحة مدنية ديمقراطية قصيرة جدا، فان سلطة الاسلامويين سيست كل اجهزة الدولة التي ينبغي ان تبقي غير مسيسة ( القضاء والجيش والشرطة والخدمة المدنية والنقابات.. الخ )، السلطة القضائية في السودان فقدت استقلاليتها تماما منذ 1983م؛ حينما قام النميري بالغاء النظام القانوني الذي رسخ واستقر في السودان لثمانية عقود 1900-1983م واستبدله بنظام قانوني وليد و خديج و هجين من عدة انظمة ( قوانين الامبراطورية العثمانية و النظام الفرنسي- منظومة القانون القاري، و التجربة المصرية .. الخ ). وحينها تقدم باستقالته كل قاضي وقرت في ضميره ذرة ولاء لمبداء حكم القانون واستقلال القضاء.. ولم يبقي الا القضاة الاسلامويين او الذين ينظرون الي عملهم و كأنه مهنة مثل سائر المهن! و هم علي استعداد للبقاء والخدمة تحت كل الظروف و لا يهمهم الا العائد المالي عليهم و المكانة الاجتماعية ...  ثانيا؛ ومن معايير معرفة مدي استقلال السلطة القضائية النظر الي الطريقة التي يتم تعيين القضاة بها من ادني درجاتهم و حتي اعلي الهرم، و معروف ان القضاة منذ 1989م يتم تعيينهم بمعيار واحد مهم و هو التزكية السياسية ( التنظيمية )فقط، ومنذ ذلك التاريخ لم يتم تعيين قضاة الا من الذين ينتمون الي جماعة الحركة الاسلامية، وحتي بعد ان بدأت السلطة السياسية العليا تنأي قليلا عن الاسلاميين لم تتم العودة لمعايير الكفاءة و التأهيل انما حلت محلها محسوبية باسباب اخري ( القرابة و النسب و المعارف.. )! و طيلة تلك السنوات لم يتم تنصيب رئيس للسلطة القضائية الا بين القضاة الموالين للتيار الاسلامي و لم تتم الترقيات لمناصب قضاة المحكمة العليا و محاكم الاستئناف الا للقضاة الذين يرتضي التنظيم الاسلامي تنصيبهم! ثالثا؛ كذا من المعايير، النظر في نفاذية احكام المحاكم خصوصا ما يتعلق بالأحكام التي تصدر في مواجهة الدولة/الحكومة. و ثم امثلة عديدة لأحكام رفضت السلطة و امتنعت عن تنفيذ احكام محاكم نهائية! منها قضية العاملين بالبنوك ضد بنك السودان المركزي. رابعا، لم تتأثر السلطة القضائية بالاشكالات العامة السياسية فحسب بل ولغت حتي في ازمة تفشي الفساد، و رغم تسليمنا بأن القضاء ليس من واجبه ملاحقة الفساد والجرائم والتجاوزات و مناجزته علي ارضه وفي الميدان انما ينتظر حتي توضع ملفاته امام طاولته، الا ان الفساد ضرب مؤسسة القضاء في العمق بدليل ورود اسم رئيس المحكمة الدستورية السابق في تجاوزات ملف الفساد الشهير اعلاميا بقضية الأقطان، مثلما تروج اقاويل حول فساد في تعاقدات السلطة القضائية خاصة ما يتعلق بالمباني في عهد رئيس السلطة السابق.. ان عدم قدرة وعدم رغبة السلطة القضائية في التصدي لتجاوزات الحكومة الجنائية او المالية قالت به لجنة التحقيق الدولية في جرائم دارفور، و قبل توصيتها بناء علي ذلك مجلس الأمن فأحال الملف لمحكمة الجنايات الدولية التي قبلت النظر في الدعوي بناءا علي ذات الفرضية. بينما لا يطبق السودان مبدأ عدم عزل قضاة المحكمة العليا؛ اي بقاءهم في مناصبهم مدي الحياة.. هذا المبدأ لا تطبقه الا بعض الانظمة القضائية و منها الولايات المتحدة الامريكية وفيها عدد قضاة المحكمة العليا قليل اذا يبلغ عددهم تسعة قضاة برئيس المحكمة؛و يعكس عددهم التوازن والتنافس بين مكونات المجتمع الامريكي المحافظة و الليبرالية، ونهاية خدمة القاضي بالمحكمة العليا متروك تقديرها لحكم القاضي نفسه فهو الذي يقرر متي يتقاعد. بينما عدد قضاة المحكمة العليا في السودان يبلغ 120 قاضيا! ما كان مطبق في السودان هو مبدأ عدم عزل وانهاء خدمة القضاة لأسباب سياسية، وهذا ما ضربت به الانقاذ عرض الحائط منذ ايامها الأولي حين احالت علي التقاعد وانهت خدمات اعداد كبيرة من قضاة المحاكم بمختلف الدرجات بحجة الصالح العام!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم ت...

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بين...

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانته...