انقضت ست سنوات علي انفصال الاقاليم الجنوبية 'اعالي النيل و بحر الغزال، والاستوائية' عن السودان لتشكل جمهورية جنوب السودان.
هذا الانفصال فرض واقعا جديدا في مجال الجغرافيا و الاقتصاد و الموارد والسياسة الدولية، لكن فيما يتعلق بالتاريخ و بوجدان السودانيين 'الشماليين والجنوبيين' ثمة حقائق تبقي عصية علي التغيير..
بانفصال الجنوب فقد السودان الوطن الواحد و 'القطر القارة' كما كان يحلو لنا تسميته و كان يتردد علي وسائط الاعلام؛ فقد الكثير من موارده، لكن اهتممنا فقط بالنفط و طرقنا نتحسر علي علي خروجه من الموازنة وتجاهلنا ما هو اهم وعلي رأس ذلك فقدان الكادر والمورد البشري المؤهل والموارد الغابية والزراعية 'اخشاب وصمغ و عسل وو' و الثروة الحيوانية المستأنسة و غير المستأنسة والثروة السمكية، ومورد مائي.. الخ
كل ذلك فقده السودان الكبير 'او السودان القديم' فما الذي بقي من الجنوب بعد الانفصال؟
رغم سعي العديد من قيادات المؤتمر الوطني و حتي بعض القيادات المحسوبة علي المعارضة لتبرير انفصال الجنوب بحجة ان الجنوب لم يكن يوما جزء من الوطن او بحجة ان السودان لم يكن اول قطر ينقسم و لن يكون الاخير تارة اخري.
رغم كل ذلك الا ان الجنوب سيبقي وجدانيا جزءا من المخيلة الوطنية، ليس وجدانيا وحسب بل ماديا ايضا، فالدستور الذي يحكم السودان اليوم ( السودان الشمالي ) هو دستور نيفاشا - الدستور مستمد من اتفاق السلام الشامل المبرمة في منتجع نيفاشا الكيني- ولايزال ساريا حتي اليوم بعد ان ادخلت اليه بعد التعديلات التي قضت بحذف كل اشارة للجنوب و للحركة الشعبية؛ وايضا بعض الترقيعات التي اقتضتها صيغة التسوية السلمية المفروضة حينها، وقد سمعت كثيرا ومن متخصصين حتي ان دستور نيفاشا 2005م من افضل الدساتير في تاريخ السودان! وهذا محض هراء؛ فدستور نيفاشا لم يكن توفيقا بل تلفيقيا ان شئت الدقة، فهو احتوي علي رؤية الحزبين الموقعين عليه بما تتضمناه من تعارض صارخ، اذ يشمل قواعد الحكم الديني الثيوقراطي للمؤتمر الوطني الحاكم مضاف اليها قواعد ومبادئ الحكم المدني والديمقراطي التي ادعتها الحركة الشعبية و تبضعت بها في سوق السياسة الدولية والمحلية، تلك التلفيقية مستمدة من اتفاق السلام جعلت الدستور بلا مغزي وبلا قيمة لذا لا غرو ان وجدناه صالحا حتي اليوم، علاوة علي التلفيقية فان نيفاشا ( اتفاقية ودستور ) في رأيي المتواضع من اسوء المدونات في التاريخ فالاتفاق تضمن في اساسه اقرارا بأن دعامة التسوية الرئيسية هي اعتماد العرق والاثنية قاعدة، وكان بروز ذلك في قانون الاستفتاء حين الحديث عن من يحق له التصويت اذ قررت انه من ينحدر من اصول جنوبية بغض النظر عن المواطنة والاقامة الطويلة فهي لا تكسب اي حقوق. كما ان الاتفاق تضمن اعتراف مخجل بأن التجربة الوطنية في حكم وادارة السودان برمتها كانت محض عبث حين اعتمدت تاريخ الاول من يناير 1956م كمرجع لا اقرار كل الاوضاع والمواقف ( من الحدود الي المواطنة .. الخ ).
اما وجدانيا فقد بقيت العديد من ذكري الجنوب من ذلك احياء الوحدة و السلام 'الحاج يوسف الوحدة والكلاكلة الوحدة و دار السلام بامدرمان و الخرطوم' و لفة جوبا وشارع بيو يو كوان.
لكن اكثر ما بقي من الجنوب هو ما رسخ في الوجدان الجمعي و وثقته الاغنية فان كان الشعر ديوان العرب فان الاغنية هي ديوان السودانيين.. وما اكثر الاغاني التي تحمل اشارت صريحة عن الجنوب
فاغنية من الاسكلا التي توثق لرحلة نيلية اقلت محبوبة الشاعر من الخرطوم الي جنوب السودان تذكر كل الموانئ والمحطات النهرية علي النيل الابيض و نهر الجبل حتي جبل الرجاف في اقصي الجنوب، و اغنية الذكريات 'يا الفي الجنوب حي الشمال' واغنية ما عشقتك لي جمالك 'من مريدي السمحة نفحة'.و بسواعدنا ونضالنا في جنوبنا وفي شمالنا.. واغنية جوبا مالك علي، و فيفيان، و يا مسافر جوبا، في مدينة جوبا اجمل مدينة،، طيارة قومي سريع ودينا؛ و اغنية قالو لي سرو 'شان ازور اهلي الدينكا اللطاف'؛ و جنا الباباي والباباي لمن لم يرونها شجيرة معمرة ولكنها بضعف وهشاشة النبات الموسمي و ثمرتها 'جنا الباباي' اشد هشاشة ولها نكهة وطعم حلو، ونشيد يقظة شعب 'منعة الغاب بليث رابض،، حل منا بالجنوب الناهض'، وفي بنحب من بلدنا 'لي في جوبا ساحر تسلم لي خدوده،، يمرح في غاباته و يسرح بين وروده،، حبي غالي ليهو ما بعرف حدوده'، وما ذكرت اغنية 'مافي داعي' الا واستدعت الذاكرة قصة لقاء الشاعر كجراي بالفنان في مدينة واو والتي يرويها وردي بصوته في احد اروع تسجيلاتها..
هذا علاوة علي اروع المقطوعات الموسيقية التي استوحاه الملحنين العظام برعي محمد دفع الله 'نهر الجور' و بشير عباس من بيئة و مناخ وحياة الناس في الجنوب.
تعليقات
إرسال تعليق