روسيا بعد الثورة البلشفية هل عادت قيصرية؟ الشيوعية نفسها أ لم تكن امتداداً للقياصرة؟
يقول هنري كسنجر "وزير خارجية اميركي سابق" : روسيا هي روسيا، سواء كانت قيصرية او شيوعية.
بمعني ان روسيا لديها وضع جيوسياسي معين "بين اسيا و اوروبا" و مركز قومي و حضاري معين يخولها لطموح دولي و اقليمي كبير..
لكن اليوم من المشكوك فيه ان روسيا "الامبراطورية" قد تغيرت! بمعني ان الشيوعية بكل جبروتها و تأثيرها الفكري و الثقافي و المادي لم تغير في بنية الدولة الروسية الا تأثير طفيف، فبعد اخر اباطرة من آل رومانوف حل اباطرة جدد! فقد جاء اباطرة من اللجنة المركزية لحزب البروليتاريا؛ لينين كان قيصراً طيباً بينما ستالين كان كالقيصر إيفان الرهيب و برجنيف و خورتشوف كانوا قياصرة كرماء اما غورباتشوف فهو قيصر ضعيف تفككت الامبراطورية في عهده، اما يلتسن فهو قيصر انتقالي انتهي في عهده زمن قياصرة الحزب الشيوعي و سلم السلطة للقيصر القوي بوتين!
اذاً الثورة البلشفية لم تغير شئ في البنية الموضوعية للسياسة و الادارة في روسيا..
من جانبنا نأخذ مقولة هنري كسنجر و نضيف اليها لتصبح (روسيا هي روسيا، سواءاً كانت قيصرية او بولشفية او بوتينية).
و كما روسيا فان الصين ايضاً تتصرف علي انها الصين، امبراطورية ضخمة و عالم قائم بذاته علي استقلال عن بقية الكوكب و باقي حضاراته..
الصين في عهد الاباطرة من سلالة مينج و ما قبلها من سلالات الاباطرة و الامراء هي نفسها صين سلالات الحزب الشيوعي الماوي .. و الرئيس الحالي هو افضل تجسيد للنزوع الامبراطوري لمن يرأس هذا العالم الصيني..
اذاً روسيا و الصين هما تجسيد لقوة الشرق القديم، الشرق التي تتصرف الشعوب فيها كما القطعان، لابد لها من زعيم او رئيس كبير مفتول العضلات بقرون قوية يأمر فيطاع و الا سيفتك بمن يعصيه او حتي يعكر مزاجه!
في عهد البشير بدأت علاقة السودان بروسيا مضطربة، اذ ان الاسلامويين مع نشوة سيطرتهم علي الحكم في هذا القطر الفقير و الضعيف و الهامشي ظنوا ان بامكانهم السيطرة علي السلطة و الجلوس علي عرش كوكب الأرض؛ فاطلقوا تهديداتهم شمالا و يمينا ... (امريكيا روسيا قد دنا عذابها)!!!
و عندما كانت روسيا تلعق جراح تفكك امبراطوريتها السوفيتية و تلجم الطموح الانفصالي لاسلاميو اسيا الوسطي و شرق اوروبا كان نظام اسلاميو السودان يدعمون و يشجعون و يحرضون انفصاليو الشيشان البوسنة و الهيرسك و كوسوفو..الخ
اذاً نظرة الروس لنظام السودان كانت ملأها الشكوك و الاستغراب، لذا حتي بعد ان اكمل نظام الخرطوم جولته في سوق المواقف الدولية و اقترب من اميركا فلم يجد ما يصبو اليه ذهب رئيس النظام الي موسكو و جلس الي بوتين طالباً الحماية من اميركا و الغرب بلغة صريحة، و قد سرب الروس ذلك الطلب لأنهم لا يثقون به و لا بنظامه!
و انحصر تعاونهم مع ذلك النظام في اخريات ايامه في ان يسهل لهم المرور الي افريقيا الوسطي (حيث اليورانيوم) باقامة قاعدة لوجستية صغيرة علي البحر الاحمر، مقابل استثمارات لا يؤبه لها في الذهب و خدمات مجموعة فاغنر الامنية و العسكرية لسلطة الخرطوم في مواجهة المعارضة المدنية و المسلحة!
اي ان كل عمل روسيا في السودان كان باشراف و ولاية المستثمر الروسي يفغيني بيرغنيف!
اما الحكومة الصينية و رغم انها بحثت عن مصالحها في السودان و لم تلتفت الي طبيعة السلطة فيه، ساعدته او تعاملت معه عسكرياً فباعت له الاسلحة الثقيلة و الخفيفة و الذخيرة ابان حرب الجنوب قبل الانفصال و في دارفور، ثم توسعت في استخراج النفط في الاقليم الجنوبي اثناء القتال قبل الانفصال و تمددت الي بقية القطاعات العقاريةو التجارية و الانشاءات و الصناعة و الزراعة .. و استفادت من هذا السوق الذي يمكن احتكاره بسبب ان الحصار الدولي عزله تماماً عن العالم.
لكن الصين لم تطور علاقتها من الخرطوم و لم ترفع حليفها الي درجة شريك سياسي و اقتصادي اطلاقاً، بل سمحت للسياسة الغربية بأن تفعل فعلها في السودان .. ثم بعد الانفصال ذهبت الصين خلف استثماراتها النفطية الضخمة الي دولة جنوب السودان و اهملت حكومة الشمال تماماً!
و في عهد ما بعد البشير فان علاقات موسكو و بكين بالخرطوم لم تختلف كثيراً، و ان كانت موسكو و بكين تفضلان سلطة لا تخرج عن "تقاليد الشرق" من حيث القبضة الامنية و القمع، الا ان علاقة نظام السودان بالاصولية الاسلامية و الارهاب الدولي يمثل هاجساً لكليهما اذ لكل من الصين و روسيا اقليات اسلامية تضم فصائل متطرفة لها علاقة بمتطرفي الشرق الاوسط بل و تمثل لهما تلك المنطقة قبلة و ملاذ و حاضنة يستمدون منها الدعم و التحريض!
و برغم دعم موسكو العلني او السري للانقلابات العسكرية التي اطاحت بعدة حكومات و سط و غرب افريقيا خلال اشهر معدودات الا ان موسكو لا تملك ترف تمديد دعمها بلا حدود .. فهي لا تزال تتخبط في سيولة تفكك الامبراطورية الشيوعية، و مواجهة اليوم بحلف اوروبي اطلسي في اوكرانيا وسط نذر بتجدد الحرب في اوروبا الشرقية.
الولايات المتحدة لن تغفر لروسيا عبثها بالمنظومة السياسية الامريكية و تلاعبها بعقول الناخبين و بالنظام الانتخابي و ايصالها قيصر الي المكتب البيضاوي (ترامب) كما ان تدخلها في بريطانيا (البريكست) و بلدان اخري جعل مواجهة المنظومة الديمقراطية للمنظومة الشمولية حتمية في السنوات المقبلة و تلك مواجهة لن تقوي الانظمة الشمولية الشرقية علي الصمود في وجهها.
--------------------------------------------------------
٤ فبراير ٢٠٢٢م
تعليقات
إرسال تعليق