التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المجتمعات التي ضيعت الصيغ

ينقسم المجتمع الدولي الي مجتمعات متقدمة واخري نامية 'متأخرة'.
  تلك المجتمعات المتقدمة تتسم بسمة واحدة جامعة هي انها تتمتع بانسجام اجتماعي علي كل المستويات الاجتماعية والفئات، بينما في المقابل تتسم المجتمعات المتأخرة 'النامية' بأنها تعيش حالة انقسام اجتماعي عميق، كل منها مجتمعه يعيش حالة توتر شديد، وشد وجذب بين فئاته، حالة عدم تعايش وعدم قبول..
  تعد العلاقة بين فئات المجتمع المختلفة "الرجل/المرأة، الصغار/الكبار، الاصيلين/الغرباء..الخ" من الأمور التي بطبيعتها شائكة وخلافية، وقد ينجح المجتمع -أي مجتمع- في مرحلة ما من تطوره من ايجاد صيغة تسوية مقبول ومفيدة؛ لكن لا تلبث الطبيعة الخلافية تنبت مع أي اختلاف في الشروط و الاحوال.
ويمثل ظهور الصيغة القانونية 'لما تتسم به القاعدة القانونية من شمول واستيعاب ومرونة وحاكمية' نقلة مهمة احدثت تطورا كبيرا، لكن تظل ايضا الحاجة الي مواكبة قاعدة اخلاقية 'حضارية ومدنية' حتي في المجتمعات المتطورة من حيث القواعد القانونية -مجتمعات سيادة حكم القانون- لأن القانون لا ولا ينبغي له ان يحكم كل شئ بل يترك هامش لتطور اخلاق واعراف المجتمع وقيمه.
لذا وحتي في تلك المجتمعات يظل الاندماج والتلاحم المجتمعي شأن مجتمعي تعمل فيه اليات الثقافة والتعليم والاعلام والاديان والسياسة دورا لا يقل عن دور القانون و الياته المختلفة.
  اما في المجتمعات المتأخرة -النامية- فانها تظل بحاجة لايجاد الصيغة الأولية. صيغ عدم التمييز بين مكوناتها لا علي اساس الجنس او اللسان او لون البشرة او العرق والقبيلة او الدين والمذهب الي عدم التمييز علي اساس الرأي السياسي..
  ثمة بعض العراقيل 'او الكثير منها' تحول بين تلك المجتمعات -النامية- وتبني هذه الصيغة، فمجتمعاتنا - مجتمعات العالم الاسلامي- مثلا يمثل التمسك بالصيغ الدينية التقليدية عقبة امام صيغة عدم التمييز بين الذكر والانثي -  الرجل والمرأة- اذا يري الكثيرين منهم وبينهم الفقهاء الذين يمثلون نخبة عوام تلك المجتمعات ان الحديث عن مساواة بين الرجال والنساء يمثل انكار لاحكام 'صحيح' الدين!
  الملاحظ ان ذات التمسك بالدين الشكلي لم يمنع التمييز علي اساس اللون او العرق او اللسان رغم الايات و السنن التي تحض علي ذلك صراحة!
لذا وقبل ايجاد الصيغ الخاصة بتماسك المجتمع تحتاج تلك المجتمعات لايجاد صيغة ايضا للتوفيق بين التمسك بالدين والايمان و تبني قيم الحداثة التي تسمح بانتقال مجتمعها من خانة المجتمعات النامية او المجتمعات التي اضاعت صيغ تماسكها وتطوره الي خانة المجتمعات المتقدمة والتي تتمتع بالحيوية والقوة لا الضعف و الموات.
  الفئات التي تحرص علي حراسة الصيغ القديمة متعللة بالقواعد الايمانية التقليدية -فئة الفقهاء- هي انما تحرس مصالح العناصر السياسية الحاكمة ومصالحها هي الخاصة لا مصلحة المجتمع المتمثلة في التحرك والانتقال والتقدم، لأن الدين لا يضع قواعد المجتمع في جميع احواله و ازمانه بقدر ما يضع قاعدة للفرد يراعيها في باطنه لا ظاهره فقط اي يهتم بالنفس والروح 'والقلب' ولا يتعلق بالجسد الظاهر فقط مثلما يحب ان يجسده فقهاء هذا الزمان! والدين ايضا يتعلق بالمضمون؛ بالانسان الفرد اكثر من اعتناءه بالجمع والاشكال والتنظيم 'الدولة ومؤسسات المجتمع'.
  ان المجتمعات التي تعيش حالة توتر داخلي واحتراب تبقي مجتمعات ضعيفة قابلة للانهيار والسقوط عند اول هجوم خارجي كما تبقي قابلة للسقوط الذاتي بسبب الوهن، ولن تكتسب القوي مالم تمنح ثقتها الكاملة لكل مكوناته ودون تمييز علي اساس النوع او الجنس او اللون او اللسان او العرق او الدين او الرأي السياسي او الحالة الصحية -التمييز ضد المعاقين او ذوي الاحتياجات الخاصة- او الفئة العمرية .. الخ فعدم التمييز بين المكونات يبقي حزمة واحدة يجب اخذها كلها اما انتقاء بعضها وتطبيقه وتجاهل البعض فلن يؤتي ثمار ابدا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تفكيك خطاب الحرب و (فلسفة البلابسة)

   الخطاب و الموقف السياسي المساند للحرب و الحسم العسكري و رفض التفاوض و رفض أي حديث عن تسوية سياسية سلمية يعتمد علي استقطاب و تحشيد العوام ممن لا خبرة و لا معرفة لهم بطبيعة الحرب ولا السياسة!    تحشيد العوام هذا خلق تيار جارف اخذ في طريقه حتي بعض "الانتلجنسيا" ممن لا قدرة لهم علي مواجهة العوام او ممن يظنون ان كل هذا الحشد لا يمكن الا ان يكون علي حق، فيحتفظ برأيه لنفسه او حتي يتخلي عنه و ينخرط مع التيار ..!!   في المقام الاول ان لخطاب العنف و التحريض و "الانتقام" جاذبيته؛ و ان للقوة و استعراضها سطوة، مثلما ان لصورة الضحية فعلها؛ اما اذا دمج خطاب الضحايا مع خطاب القدرة علي الانتقام فاننا نحصل علي سيناريو تقليدي للافلام "البوليودية" و كثيرون هنا تفتق وعيهم و انفتح ادراكهم علي افلام الهند! فما يحدث و ما يدعو اليه خطاب الحرب بالنسبة لهؤلاء مفهوم و مستوعب و في مدي تصورهم لذا يرونه ليس واقعياً فحسب بل و بطولي و مغري يستحق ان ينخرطوا فيه بكلياتهم. سؤال الطلقة الأولي: قبل ان يعرف الناس الحقيقة بشأن ما قاد الي هذه الحرب التي انتشرت في مدن السودان و ولاياته ان...

لماذا يفضل الملكيون العرب التعامل مع جمهوريي اميركا؟؟

  لا يخفي الملوك و الامراء العرب "و اعوانهم" ميلهم و تفضيلهم التعامل مع ادارات جمهورية في اميركا و لا يخفون تبرمهم من تنصيب رئيس من الحزب الديمقراطي.. و يبررون ذلك الميل و التفضيل بمبررات مختلفة مثل تعامل الجمهوريين الحاسم مع ايران !! في الواقع فإن اكثر رؤساء اميركان الذين شكلوا اكبر تهديد للعرب و المسلمين هم من الجمهوريين (بوش الأب و الإبن و ترامب - غزو العراق و افغانستان و دعم اسرائيل)! لكن الجمهوريين كما عرب النفط يفهمون لغة المال جيداً و الادارة الجمهورية تضم علي الدوام اشخاص من قطاع الطاقة و النفط او صناعة السلاح او الادوية او حتي صناعة الترفيه "هوليود" يفضلون لغة النقود و المصالح. اذاً اكبر تهديد واجهه العرب و المسلمون من ادارات اميركية كان في فترات حكم جمهوري.. و بعد الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م اعلن بوش الابن سياسة صارمة في مواجهة انظمة اسلامية و عربية (افغانستان و العراق و السودان) كما مارس ضغوط غير مسبوقة علي السعودية اسفر عنها اجراءات حازمة ضد الجماعات المتشددة من الأخيرة، و تغيير في مناهج التعليم المدرسي و الجامعي فيها! الجمهوري ترامب اقدم علي خطوات غير مس...

شرح قانون الوجوه الغريبة !!

  المقصود بقانون الوجوه الغريبة هو اوامر الطوارئ التي صدرت في بعض الولايات بعد اندلاع حرب ١٥ ابريل/الكرامة و خصوصاً بولايتي الجزيرة و نهر النيل.. و هي اما اوامر صدرت من الوالي شفاهة و علي رؤوس الاشهاد او مكتوبة و مفادها ملاحقة ما يعرف ب "المندسين" و الطابور الخامس و من يشتبه في انتماءهم او تخابرهم مع مليشيا الدعم السريع، حيث راج ان المليشيا تدفع بعناصر من استخباراتها و قناصيها الي المناطق التي تنوي احتلالها لتقوم تلك العناصر بالعمل من الداخل بما يسهل مهمة الاحتلال .. و تستهدف الملاحقات الباعة الجائلين و اصحاب المهن الهامشية، و أي شخص تشك فيه السلطات او المواطنين؛ و في اجواء من الارتياب بالغرباء غذتها دعاية الحرب تم الطلب من المواطنين التعاون بالتبليغ و حتي بالقبض و المطاردة علي من يرتابون فيه. قانون او تعاليمات (الوجوه الغريبة) اسفرت عن ممارسات متحيزة "ضد غرباء" تحديداً ينحدرون من اقاليم كردفان و دارفور في ولايات عدة (الجزيرة، و نهر النيل، و كسلا، و الشمالية)؛ فالوجوه الغريبة هي اوامر تأخذ الناس بالسحنة و الملامح؛ و هي ممارسات بالتالي اسوأ مما كانت تمارسه "مح...