اذكر عندما سوئل رئيس الوزراء عن تأخير محاكمات مجرمي العهد البائد اجاب بأن السلطة القضائية و النيابة العامة اجهزة مستقلة و هو لا يمكنه ان يتدخل في عملها، هذا صحيح بالطبع، لكنها ليست الاجابة النموذجية مثلما لم يكن السؤال نموذجياً .. فمن يحدد ما إن كانت المحاكمات تأخرت أو تقدمت؟
القضاء و النائب العام يحكمه قانون اجرائي يعمل بموجبه، و بمجرد تسلمهم لمقبوض عليهم فان النظام العدلي الاجرائي يعمل، و هو يحدد المدد التي يحق لكل فرع من افرع مؤسسات العدالة ان يمارس سلطة الاحتجاز بموجبها و الأجل الذي لا يجوز بعده اعتقال شخص دون حكم قضائي نهائي صادر بحقه من محكمة مختصة، فهل تجاوزت تلك الاجهزة القانون!؟
ما يهم اكثر من محاكمة زيد و عبيد هو اصلاح السلطة القضائية و النيابة العامة، فاصلاحها بعد عقد الخراب الذي طالهما و كذا اصلاح باقي اجهزة انفاذ القانون (شرطة، امن، و جيش)؛ و إن شئنا الواقعية نقول إعادة بناء لأن الاصلاح يكون لما هو بحالة لا بأس بها و يراد تحسينها، هو من صميم عمل الحكومة.. و لا نري فيهما اصلاح حثيث بل يسير ببطء شديد، و نعرف ان بقاء تلك الاجهزة دون اصلاح جوهري و جذري يعني ان كل ما تحقق من تغيير يبقي عرضة للتبدد.
بصدور قانون اصلاح المؤسسات العدلية نأمل ان تكون اُزيلت احد اكبر معوقات التغيير و ارساء دولة حكم القانون، بيدَ اننا نعلم ان القانون لا يمنح الرؤية و لا يُملّك الارادة السياسية، بل العكس صحيح، فالرؤية و البصيرة و الارادة السياسية هي التي تُوجد القانون كاحد ادوات إحداث التغيير و تحقيق الاستقرار و توفير مُتطلب النهوض و التقدم.
اصلاح تلك المؤسسات "سياسة دولة" و هكذا يجب ان تكون و ليس شأناً خاصاً بها يقرره مسؤوليها و منسوبيها!
ان استقلال السلطة القضائية و النائب العام لا يعني انها جزر معزولة و خارج طوع السلطة السياسية و مسيطر عليها فقط بواسطة رئيس/ة القضاء و النائب العام!
بسبب ضعف قحت و لجنتها القانونية و تهافتها علي الترشيحات فان الوضع يبدو علي ماهو عليه!
تحقيق اهداف الثورة القانونية مسألة لا تهاون فيها و لا مهادنة، فموكب استقلال القضاء الذي سيرته الثورة قبل 6 ابريل و لم يكن حينها من يتشدقون اليوم ينبسون بكلمة!
اصلاح ثم تطوير تلك المؤسسات عملية مستمرة و لا نهائية لأن اقامة دولة العدالة المنشودة غاية بطبيعتها لا نهائية قد نقترب منها لكنها لا تُدرك ابداً، لذا يجب ان يكون الاصلاح و التطوير مبدأ في لب و جوهر ادارتها و بالتوازي مع العمل اليومي فيها حتي لا يحدث اي تراخي و تراجع مستقبلاً مثلما وقع في الماضي
قبل تعيين أولئك كان ينبغي "و لا يزال" ان توضع امامهم مهام محددة و اصلاحات بعينها وفق مبادئ حكم القانون و بجدول زمني ايضا ان قبلوا بها يتم تعينهم و إن لا فلا.
لدينا الان قضاء مترهل، محكمة عليا من 120 قاضيا مع ان اميركا ب300 مليون نسمة و دستور هو الأقدم و بتعديلات و تفسيرات متداخلة و ميزانية بمئات الترليونات و منازعات ملكية فكرية و براءات اختراع و حقوق مؤلفين هي الاعقد في العالم تدير كل ذلك فقط ب 9 قضاة في المحكمة العليا..
و بريطانيا تدير شأنها ب12 قاضياً!
قضاء السودان و نيابته في ظل النظام الماضي لم تسلم من الصالح العالم و لم تسلم من الترضيات الوظيفية و اضحت القاب في غير موضعها! و هذا الوضع يجب ان يتم تصحيحه بلا مماطلة.
اخيراً يجب التأكيد علي ان كل الضالعين في جرائم ضد الشعب و الوطن يجب ان يقدموا لمحاكمات عادلة، و يجب علينا ان نمنح اجهزة التحقيق و تنفيذ القانون وقتها حتي تقوم بتقديم قضايا متماسكة، تحقيق العدالة امر يجب الا يخضع لمزايدات و ضغوط شعبية بل هو مسألة احتراف قانوني يترك شأنها للمختصين و القانونيين الملمين بابعاد تحقيق العدالة لا قانونيي الانقاذ ممن احترفوا المزايدات و اثارة الجلبة و اللغط!
تحقيق العدالة خصوصا في ظل حالات مرت عليها سنوات و عقود و في ظل سلطة كانت تمتهن سياسة افلات ممنهج من العقاب و اتلاف الادلة ينبغي ان يترك ليأخذ وقته دون عجلة ..
ان المراد هو تحقيق العدل و ليس التشفي و الانتقام و الثأر بادوات الدولة و القانون! و طالما ان عجلة دولة القانون دارت فيجب الا نستعجلها .. لأن "رؤية العدالة و هي تتحقق لا تقل أهمية عن تحقيق العدالة" و فتح تحقيقات مع الجناة و اعتقالهم و الشروع في تقديم الجناة لمحاكمات و بدء صدور الادانات لأحكام بعقوبات بحقهم لا يقل أهمية بحال عن تنفيذ تلك العقوبات.
يوليو ٢٠٢٠م
تعليقات
إرسال تعليق