مفهوم جري تطويره لمعالجة اشكالات مجتمعات ما بعد الحروب الاهلية الطويلة و مجتمعات ما بعد انظمة الاستبداد والقمع القائم علي حكم طوائف او اثنيات تبني سلطانها علي تقريب عنصر معين و عناصر متحالفة معه وبالمقابل اضطهاد و اقصاء عنصر او عناصر اخري.
مفهوم العدالة الانتقالية له ميزة لكونه اولا يقلل مخاطر تزايد تعميق الانقسام الاهلي نتيجة لعمليات استرداد الحقوق القانونية وما يصاحبها من مخاوف استغلال المنظومة العدلية لتصفية خصومات قديمة و لانتقام و تشفي بما يعوق جهود توحيد الجبهة الداخلية و بناء سلم اهلي اجتماعي و ارساء دعائم مؤسسات المجتمع و دولة القانون الوطنية..
و ثانيا هو يوفر تكلفة تشغيل المنظومة العدلية والحقوقية، اذ ان فتح ملفات قديمة يتطلب جهد اكبر لجهة جمع بينات وادلة و وقائع قضايا تم تجاهلها وسعت الدولة عمدا في السابق لطمس ادلتها ويتطلب كذلك مصروفات طائلة جدا.
في مقابل مفهوم العدالة الطبيعية بقواعدها المعروفة و مسالكها واجراءاتها الاعتيادية، و التي تكفل رد الحقوق و جبر الاضرار بافضل ما هو متاح لكن يعتورها انها مصممة للعمل في الاوضاع الطبيعية المستقرة و تراكم قواعدها نتاج تجربة خاصة طويلة متقادمة ومستقرة.
فالعدالة الطبيعية وفي اوضاعها المعتادة تستغرق وقت طويل نسبيا حتي تصل ل"عنوان الحقيقة"، بينما اي تأخير في مراحل ما بعد الحروب والنزاعات الاهلية تحديدا يتم تفسير ذلك شعبيا علي انه عجز او عدم رغبة او مماطلة في تحقيق العدل ما قد ينذر او يسبب فعليا انفجار لاحتقان في وقت لا يتحمل انفجار الاحتقانات.
ولا تستند العدالة الانتقالية علي المبررات العملية و الضرورية سالفة الذكر انما في الاساس تستند علي مفهوم التسوية القانونية بين طرفي الدعوي الجنائية "الشاكي/المجني عليه/الادعاء من جهة" و "المتهم/الجاني/الدفاع من الجهة الثانية"،
والتسوية بين الاطراف مبدأ معروف و تعتمده اغلب الأنظمة القانونية ان لم نقل كلها، و يطبق في ظل الاوضاع القانونية المعتادة واجراءاتها الروتينية، ولها ضوابط و نطاق من ضمنها انها تنطبق علي الحق الخاص و تسقط به المسؤولية الجنائية تماما و تعفي من العقاب وتنقضي بها الدعوي في الحق الخاص لكنها لا تمتد الي الحق العام اذ ان المسؤولية فيه لا تسقط الا بعفو يصدر عن الجهة المختصة "رئاسة الدولة" بعد المحاكمة والادانة او من النائب العام عن طريقة قاعدة "الوعد بوقف العقوبة" فيما يعرف ب"شاهد الملك" .
و هي كذلك "العدالة الانتقالية" تقوم علي فلسفة الصفح و التسامح كقيم انسانية نبيلة تعزز الثقة و الصلح و تدعم جهود تحقيق "المصالحة بين فئات المجتمع" علي دعائم المصالحة بين الضحية والجاني.. و الصلح كذلك مبدأ قانوني معروف ونوع او جزء من التسوية.
كلا المفهومان "التسوية و الصلح" يسيران معا لتأليف العدالة الانتقالية و التي بدورها تسير بالتوازي وفي خط ثانوي مع العدالة الطبيعية "العادية" لتحقيق ذات الغاية.
فالعدالة الانتقالية تعطي التسوية ابعاد اوسع و عمق ابعد فهي لا تشمل الادعاء و الدفاع والجاني والضحية و القاضي بل ومعهم المجتمع بكامله ايضا، كل الاطراف معنيون بهذه التسوية و الصفح و العفو وصولا لشفاء المجتمع من داء الكراهية والانقسام و الاحقاد والضغائن..
و بتطبيق مفهوم العدالة الانتقالية باركانها و عناصرها التي ذكرنا آنفا علي حالة السودان بعد ثلاثة عقود من حكم البشير- الحركة الاسلامية بحروبها الداخلية و استبدادها السياسي و قمعها للحريات و سلبها للحقوق يمكن ان نخلص لحقيقة ان الصراع في السودان لم يكن يوما صراعا بين فئات اجتماعية "اثنية او طائفية" وعلي اساس العرق او الدين او اللسان ..الخ بل هو صراع سياسي واضح المعالم برغم محاولة كل اطرافه الباسه ثوب الطائفية و الدين و العرق والثقافة! كل الاطراف اشتركوا في سياق الحشد و التعبئة في عملية تزييف اسباب و ابعاد الصراع سعيا لكسب متعاطفين وانصار و موالين.
عليه نقطع جازمين ان اليات العدالة الانتقالية ليست ضرورية و لا واجبة الاتباع لمعالجة تداعيات سنوات الاستبداد و الحروب الداخلية والانتهاكات المصاحبة؛ وان العدالة الطبيعية و اجراءاتها العادية و القضاء الطبيعي يصلح للتعامل معها، و فقط الحالات التي تكون تكاليف القضاء الطبيعي فيها باهظة و مكلفة بسبب تعدد الجناة و الضحايا يمكن وعلي سبيل الاستثناء ان يتم فيها تطبيق قواعد اجراءات العدالة الانتقالية و في نطاق محدود وفق قواعد القانون الجزائي واجراءاته المعتادة "الصلح والتسوية و الوعد بوقف العقوبة والعفو العام..الخ" كما يمكن هنا تطبيق قواعد المنشورين الجنائيين الاول والثاني الخاصين باجراءات محاكمة المنازعات الجماعية و اللذين يعالجا حالات القضايا متعددة الاطراف و التي يشوبها الغموض نتيجة لطبيعتها الشائكة و المتداخلة التي يشوبها الهرج و الفوضي.
يوليو ٢٠١٩م
تعليقات
إرسال تعليق