التخطي إلى المحتوى الرئيسي

من برونك الي (ولد لبات)؛ تحالفات البحث عن سلطة في السودان و مبعوثي العناية الالهية!

  ان كان علينا شكر الشنقيطي (الموريتاني) البروفيسر محمد الحسن ولد لبات علي مجهوداته في الوساطة بين المجلس العسكري و قوي إعلان الحرية فان علينا شكره مرةً ثانية بحرارة علي اقتطاع وقت و بذل جهد لوضع مؤلف عن تجربته معنا "السودانيين" ..

فالملاحظة المؤسفة ان الثورة السودانية بكل زخمها و روعتها التي شدت و ادهشت السياسيين العالميين قبل المراقبين لم تحظي بأي مخطوطة بمستواها أو حتي اقل من ذلك، فكتاب ولد لبات هو بحق أول كتاب ذو قيمة تحظي به ثورة السودان و ثوارها..

بعض الناشطين الحزبيين يتوجس من كتاب ولد لبات (السودان علي طريق المصالحة) خصوصا أولئك الذين احاطوا به احاطة السوار بالمعصم ظناً منهم ان السلطة بين يديه و عليهم ان يحاصروه ليستخلصوها منه! و أغلب ساسة السودان من هذا الصنف و هنا تحضرني زكري المبعوث الاممي يان برونك "رئيس بعثة يونيمس" و الذي ظنه أولئك الساسة حاكماً عاماً للسودان و اصبحوا يلجأون اليه صباح مساء ليبثوه شكواهم من المؤتمر الوطني و نجواهم .. حتي ظننت أنهم "سيشيخونه" فإذ مس احدهم الضر هتف: "يا برونك تلحقنا"!! و حتي تسببوا في ان ينسي برونك مهمته و يتجاوز حدوده ما تسبب في ان تطرده حكومة النظام البائد شر طردة!

ان اردنا مناقشة بعض الافكار التي وردت في كتاب "ولد لبات" مع من اطلعوا عليه أو  عرضه لمن لم يقرأوه بعد، فانه يلزمنا القول؛ الموضوع المركزي للكتاب و كما يبين من فهرس المحتويات يدور حول وساطة الاتحاد الافريقي بين المجلس العسكري و قوي إعلان الحرية و التغيير (سياق الوساطة، انضاج الوساطة، مسارات الوساطة، تحديات الفترة الانتقالية، تساؤلات حول المستقبل) اضافة للاهداء و المقدمة المهمة لأن كاتبها هو الرئيس السابق لمفوضية الاتحاد الافريقي و الرئيس السابق لدولة مالي السيد عمر كوناري.

الكتاب متوفر باللغات الفرنسية و الانجليزية اضافة للعربية و هذا يؤكد ان ثمة جهد كبير بذل فيه..

اذاً الكتاب يتناول الاحداث التي جرت عقب الاطاحة بالبشير و نظامه و صعود البرهان رفقة مجموعة المجلس العسكري الانتقالي و تحديداً اعتباراً من الثاني و العشرون من ابريل و حتي السابع عشر من اغسطس 2019م و التاريخ الاول هو يوم زيارة رئيس مفوضية الاتحاد الافريقي السيد موسي فكي الي الخرطوم كأول مسؤول رفيع يزور السودان بعد سقوط نظام البشير و كان برفقته كاتب (السودان علي طريق المصالحة) البروفسير ولد لبات، بينما التاريخ الثاني هو تاريخ توقيع الاتفاق السياسي و الوثيقة الدستورية الانتقالية.

عقب تلك الزيارة قرر رئيس المفوضية ان الموقف يتطلب تعيين مبعوث عنه لمتابعة اجراءات نقل السلطة لحكومة مدنية "و فقاً لقرار الاتحاد الافريقي بخصوص تطورات الاحداث في السودان بعد الاطاحة بحكومة البشير" و التوسط لذلك الغرض ان لزم الأمر.

الكاتب يعرض مجهوداته لانجاح مهمة نقل السلطة بين الطرفين المتنازعين خصوصا بعد مرحلة فض الاعتصام المشؤومة التي وصلت فيها الاوضاع الي حافة الانهيار التام، و يحاول المؤلف ابراز دوره علي انه البطل الرئيسي و محاولته تحجيم جهد زميله المبعوث الاثيوبي (محمود درار) إلا ان لا احد يستطيع ان ينكر ان الوساطة لم تستوي علي سوقها الا بعد زيارة الرئيس الاثيوبي للخرطوم .. كما ان حديثه عن اعتراض المجلس العسكري علي تعاظم تمدد دور الاثيوبيين يشير الي ان صعوده كان بدفع من المجلس العسكري و ليس بمهارته الخاصة، فاستجابة الاثيوبيين و قبولهم العمل تحت مظلة الوساطة الافريقية هي ما كفل لها النجاح.. اذ لا يمكن لأي مكابر ان ينكر دور و جهود الرئيس الاثيوبي و مبعوثه و سفارة بلاده في هذه الوساطة مثلما لا يمكن نكران الدور المركزي لاثيوبيا افريقياً و دورها في قيادة اتحاد افريقيا و منظماته و مفوضياته..

و علي كل حال فان التعثر الذي اعقب الاطاحة بنظام البشير تسبب فيه السودانيون انفسهم "قادة المجلس العسكري و قادة ائتلاف الحرية و التغيير" فالطريق الذي اعتمدوه من الاساس "التفاوض و مطاولاته" كان اسلوبا خاطئا ، السبب الجوهري وراء ذلك هو ان القادة الحزبيين لم يكونوا مهيئين و لم يتوقعوا سقوط النظام و لم يملكوا تصور لانتقال السلطة و ادارة الاوضاع!

في كتابه يحتفي ولد لبات بأنه صك المصطلح (المنظومة الدفاعية و الأمنية) مع انه لا يبين ما هو جدوي ذلك المصطلح و دوره و تأثيره في إعادة صياغة العلاقة بين الدولة و مكوناتها و بين العسكر و الحياة السياسية، 

في كتابه يعرض ولد لبات لذكر بعض من أهم المتداخلين الوطنيين في الشأن السياسي و يعرض لادوار لعبوها و مواقف اتخذوها و تصريحات "علنية أو غير علنية" ادلوا بها، و أهم جزء هو ما يتعلق ببعض ما قيل في جلسات التفاوض المغلقة، كما يعرض و يتناول صفات بعضهم الشخصية و ميزهم و عيوبهم من وجهة نظره الخاصة طبعاً، كما يستعرض كل الاحزاب و الحركات و الجماعات و المنظمات و مواقفها اثناء ساعات وايام الازمة الخانقة .. و هذا الجزء بالذات اثار حفيظة كثير من منسوبي الاحزاب لأنه يعكس هشاشة موقفهم (المستمر حتي الأن) و إن جاهدوا لاخفاء ذلك بعد ان تدثروا بدثار الدولة و عباءة السلطان و النفوذ..

كما يعرض لبعض الاحداث و المواقف التي جمعته ببعضهم "افراداً و جماعات"، فقرّظ البعض و هجاء اخرين، أما ممثلي المكون العسكري فقد اطنب في مدحهم جميعاً و علي تهذيبهم و تنظيمهم، و مرجع ذلك في نظري هو طبيعة عملهم و مهنتهم التي تفرض عليهم التنظيم و التراتبية الصارمة فالحضور عندهم بنظام و الحديث بنظام و الانصراف بنظام، أما تهذيبهم وتعاونهم فمرده ان الحرب كما السياسة كما كل شئ "خدعة" فالعسكري لا يسمعك ما يسئك و لكن يريك اياه.

  و لعل اطرف الموقف التي سردها؛ ذلك الذي جمعه بقيادات تنظيمات نسوية قاد وفدهم سفير غربي! و كان متحدثاً رئيسياً في ذلك اللقاء ما اثار حفيظة ولد لبات فطلب من السفير مغادرة مكان الاجتماع، هذه الحادثة تعكس الي اي مدي نحن شعب "طيب" و سبهلل و عشوائي! ولعل احد اكثر المواقف حرجاً و أسفاً و ارباكاً التي اوردها "ولد لبات" ذلك الذي اشتمل علي حوار دار بين القيادي الشيوعي صديق يوسف "و الذي دأب ولد لبات علي وصفه بشيخ معارضي النظام السابق حيناً و بالمسن حيناً.." و نائب رئيس المجلس العسكري الذي سأله مباشرةً: ماذا انتم فاعلون اذا اجتاحت جيوش الحركات الخرطوم..؟

و يبدو ان القيادي بالشيوعي و قوي الاجماع باغته السؤال فرد بأننا نقاوم بالجيش و الدعم السريع، و تمادي نائب رئيس المجلس بالقول أنهم سينسحبون فرد "صديق" فيما بدا رده اقرب الي استجداء بقاءهم ليدافعوا عن "الخرطوم"!

وكان في مقدور القيادي العتيق ان يرد ب: "نفعل كما فعل اهل كل المدن و القري التي اجتاحتها مليشيات المؤتمر الوطني، و ارتكبت من جرائم الحرب ما ارتكبت و من جرائم الابادة الجماعية ما فعلت، فلسنا بدعاً من ذلك و ليس علي رأسنا ريش يميزنا، و لسنا أفضل من غيرنا .. و ليته و قال له: "ان عليه ان يستحي من هكذا سؤال، فجيوش الحركات هي في نهاية المطاف تتكون من أفراد سودانيين منا و فينا و لنا و علينا" أو قال له: "إن جاءوا ليستبدوا! نقاومهم ببناتنا وابناءنا كما قاومنا بهم نظام الحركة الاسلاموية، ففتحوا صدورهم للرصاص و ليس في اياديهم إلا علامة النصر و ليس في افواههم إلا الهتاف (حرية سلام و عدالة)، فليست جيوش الحركات جيوش شياطين اكثر ممن قتلوا العزل عند ابواب حامي الحمي و رموا الجثامين الطاهرة في النيل.. و اغتصبوا و احرقوا.."

و من النقاط المهمة التي يتناولها تلك المتعلقة باحتكار احزاب و تنظيمات قوي إعلان الحرية و التغيير لتمثيل الثورة في طاولة التفاوض و ما نجم عنه من احتكارها لنصيب كبير في السلطة الانتقالية التي اثمرها ذلك التفاوض و اثمرتها الثورة و التغيير اولاً.. هذه المسألة كذلك تثير حفيظة قادة تلك القوي مثلما اثارت حنق الكثيرين ممن تم ابعادهم و اقصاءهم عن المشهد،

لكن لو علم الجميع ان الفترة الانتقالية ليست هي خاتمة المطاف و لا غاية المنتهي فان حفيظتهم ستهدأ و ثائرتهم ستتراجع اذ لا يزال هناك الكثير مما يمكن و يجب القيام به حتي تعبر البلاد نفق الانتقال و لا يزال للثورة قوة دفع مستمرة لاحداث تغيير جذري في عديد من المواضيع و الجهات.. و هذا ما يختم به ولد لبات كتابه (فصل تساؤلات حول المستقبل).  

اغسطس ٢٠٢٠م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم ت...

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بين...

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانته...