التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مركز يتراجع و هامش يتقدم!

 لم يؤثر جدل في واقع و مستقبل السودانيين مثلما أثر فيه "حديث المركز و الهامش" بفرضية الصراع، و التي تقوم علي ان الصراع بينهما هو محرك الاحداث الفعلي، و هو ما يجب "للمهمشين" الاصطفاف علي اساسه و التوحد تحت لواءه لتخليص حقوقهم من بين اسنان و "معدة" المركز الهاضمة لها!

 و لم يتم أهمال نقد و تمحيص فرضية مثلما اهملت هذه!!

 و برغم ان الذين روجوا لها "نخبة" محسوبة علي تيار سياسي صغير إلا ان جاذبيتها اغرت الكثيرين لتبنيها بينما دفعت البقية الباقية التي تحاشي نقدها! خوفاً من الاتهام بممالاة المركز و خيانة الهوامش! 

السؤال الذي طالما تحاشيناه هو: هل ساعدنا "حديث المركز و الهامش هذا" كسودانيين علي فهم اسباب تأخرنا السياسي و الاجتماعي، و علي افادتنا في تغييره و الثورة علي ذلك الواقع؟!

علاقة الدولة باقاليمها الجغرافية و سكان تلك الاقاليم من موضوعات الحكم و الادارة القديمة، و اساليب الحكم المركزي و اللا مركزي و الفيدرالي و الكونفدرالي من الامور التي قُتلت بحثاً في معاهد الادارة العامة و جدل الساسة و العوام، و ليس ثمة ما نضيفه الي ذلك الجدل اللهم إلا القول ان كل تلك الانواع من الادارة مجرد وسائل؛ تبني احدها لا يعني حتمية النجاح أو الفشل بل الأهم دوماً هو تبني حزمة كاملة من مبادئ الادارة الحسنة التي تتيح المساءلة و المحاسبة بقدر عالي من الشفافية و بالتالي تحارب الفساد.. 

فيوماً ما كان السودان يحكم بمركزية قابضة "فترة الحكم الاستعماري و اوائل العهد الوطني" و مع ذلك كانت التنمية تسير بصورة لا بأس بها و لم تشتكي جهة من تهميش .. لأن العدالة لا يختص بها نوع من انواع الادارة تلك - ولا يمكن أن نقول ان الحكم اللامركزي أفضل من المركزي أو الفيدرالية أعدل من الاخريات، فتلك ادوات للحكم و الادارة أما العدل فهي صفة للنظام ككل متكامل، و للأشخاص الذين يديرون ذلك النظام!

ثمة سؤال ثانوي هو من أين اتي رواد مذهب التهميش بهذا القول "ضرورة، لا بل حتمية الصراع بين الأطراف و المركز"؟

العلاقة بين المركز و الأطراف (الهوامش) من الأمور التي بحثها دارسو التنمية الاقتصادية و الإجتماعية و علي مايبدو استل رواد هذا المذهب مصطلحاتهم من علوم التنمية و اقحموها في السياسة و من ثم فجروا بها جدل الهوية الذي علقنا فيه خلال العقود الاربع أو الخمس الماضية و إن كانت "علقتنا" أكثر وضوحاً في عقود حكم الانقاذ.

لقد انحرف مروجوا جدل المركز و الهامش بجدلهم و وصلنا مرحلة ان ندافع حتي عن اعتي رموز نظام الانقاذ لمجرد كونهم من الهامش فهذا كافي بنظر أولئك ليعفيهم من المسؤولية و يجد لهم العذر باعتبارهم مغرر بهم و مخدوعين من "المركز" و ضحايا له و إن مكانهم الطبيعي و مقعدهم هو معارضي المركز و سلطته لا في موقع صنع أو تنفيذ القرار.

نظرية المركز و الهامش كأساس للصراع السياسي اغرت كثير من الكتاب للمُضي قُدماً فقاموا بصك المزيد من المصطلحات التي تدعم النظرية كمصطلح (دولة الجلابة و مؤسسة الجلابة) دولة الجلابة مصطلح استخدمته الحركة الشعبية لتعبئة جنودها في معركتهم ضد (جيش الجلابة)، و تم تمرير المصطلح وسط القوي اليسارية بسبب التواطؤ فالجيش الشعبي في بداياته كان حركة ماركسية، و المراكسة هم من رواد مدرسة السباب السياسي و الشتائم السياسية!

مر المصطلح و تبناه لاحقاً أكاديميون ضمنوه في كتبهم و مقالاتهم دون أن يمحصوه و يردوه الي أصله و اول استخدام سياسي له! هم يجهلون أن أصل المصطلح كان استخفافا بفئة "التجار المتجولون" في بيادر السودان حينما نزع عنهم حكمدار عام السودان (شارلس غردون) في نحو العام ١٨٧٥م الحماية القانونية متهماً إياهم بتوفير إمداد لتجار الرقيق و طلب من زعماء القبائل في دارفور و كردفان أن يحاربوهم و يسلبوهم أموالهم و يقتلونهم أيضاً أن مروا بهم فأصبحت (جلابي) مرادفاً لمستباح المال و الدم!

لقد كانت سلطة الانقاذ هي المستفيد الأكبر من جدل صراع المركز و الهامش لأنه جدل قسّم ضحايا الانقاذ و زادهم ضعفا علي ضعفهم، فأولاً اهملنا تمحيص الايدولوجيا التي حكموا بها و اهملنا نقدها و انصرفنا الي نقد "المركز" و من ثم اعفينا المدرسة "الفكرية" التي انتسبوا اليها - الإسلام السياسي - من أي مسؤولية، بينما في الواقع لو نظرنا الي الجغرافيا التي اتي منها أغلب رموز الانقاذ لوجدنا ان سلطتهم ربما كانت اكثر سلطة في تاريخ السودان ضمت منتسبي الهامش .. و في الواقع ان كل رموز تلك الحقبة كانوا يمثلون انفسهم و مصالحهم الشخصية دون التفات لأي جهة سواء كانت مركز أو هامش..

 أنهم مجموعة وصلت الي السلطة عبر استغلال الدين و استمرت فيها باستغلال الدين، و نفذت كل جرائمها من جرائم الحرب الي الفساد المالي الي تقسيم البلاد بواسطة استغلال و توظيف الدين..

ثم هي مجموعة وظفت كل شئ لتحافظ علي السلطة، و من ضمن ما وظفت تعميق الانقسام العرقي و الجهوي.. لقد وظفوا و استخدموا العنصرية بفعالية حتي ينقسم الضحايا و لا يستطيعوا المقاومة و التصدي للظلم الواقع علي كل الوطن و كل المواطنين، و سقطت سلطتهم فقط يوم اتحد المواطنون.

لم تكن نظرية صراع المركز فعالة في معارضة و أضعاف الانقاذ، بل خدمتهم اكثر مما اضرتهم، هذا من حيث الوظيفة، أما من حيث المحتوي فهي بالأساس فكرة سطحية و ساذجة، فوجود مركز و هوامش هو من طبيعة الاشياء، العالم كله له مركز و هوامش، بل اي جسم أو أي شئ له مركز و هوامش فبذا تحفظ الاجسام توازنها و تتقدم، و العلاقة بينهم لا يمكن أن تقوم علي صراع لأن هذا يعني التشظي، و تكوين اجسام جديدة اصغر حجما و لها مركز كذلك و هوامش..

و لعل أفضل ما يمكن أن نذكر هنا في الختام هو قول ادورد سعيد لمحمود درويش حينما سأله عن هويته كمشرقي و فلسطيني يعيش في الغرب كاميركي:

"و الهوية قلت:

قال: دفاع عن الذات

الهوية بنت الولادة، لكنها 

في النهاية إبداع صاحبها

لا وراثة ماضي ٍ...

فاحمل بلادك أنّي رحلت 

و كنْ نرجسياً اذا لزم الأمر،

لا الشرقُ شرقٌ تماما

و لا الغربُ غربٌ تماما

هنا مركزٌ يتراجع و هنا هامش يتقدم"

 

فبراير ٢٠٢١م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم ت...

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بين...

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانته...