التخطي إلى المحتوى الرئيسي

اقتصاد الحرب.. اسواق الحرب

 مثلما ان للإستقرار منطقه و قوانينه فان اللااستقرار و الفوضي لهما منطقهما و قوانينهما .. قوانين اللا إستقرار ليست وليدة هذه الحرب، فالعشوائية و الفوضي في الاقتصاد و الاسواق السودانية و النشاط التجاري تضرب منذ ما قبل ١٩٨٩م لكن اعتبارا من ١٩٨٩ تم اعتبار حالة الفوضي هي القاعدة العامة و ما عداها هو الاستثناء.

تم اخراج كل الشركات و رجال الاعمال الذين لهم تاريخ عريق و ارث و المام بتقاليد العمل التجاري و الاقتصادي و اخلاقياته و علاقات داخلية و دولية متينة.. فيما تمت رسملة عدد من الواجهات التجارية و رجال اعمال بلا جذور في عالم المال و الاعمال و دنيا الاقتصاد و التبادل التجاري، واجهات و رجال اعمال مصنوعين في دهاليز الحزب الحاكم و اجهزته الامنية و بمساعدة بيوت تمويل صممت لاغراض سياسية و مخابراتية لا تجارية و اقتصادية!

اعتباراً من ١٩٨٩م عاد السوق السوداني الي مرحلة النشأة .. نشأة بلا توجيه و ضوابط الا خدمة السلطة و تنظيمها.. الدولة لم تملك رؤية لكيفية توظيف الاسواق و التجارة و (القطاع الخاص) خدمةً للاقتصاد و المجتمع بينما منعت رجال الاعمال من تنظيم انفسهم (غرف تجارية .. لجان ) بل قامت بتشكيل و تدجين غرف و اتحادات موالية للحكومة!
لذا لم تخدم تلك الواجهات الا نفسها و التنظيم و حتي تلك لم تخدمها علي أحسن وجه، فيما كانت عبء و وبال علي الاقتصاد الوطني.
انقطعت علاقات السودان الاقتصادية و التجارية و المالية (و المصرفية كذلك) مع العالم اولاً بسبب روح العداء التي ابتدر نظام ١٩٨٩ بها عهده تجاه العالم و الاقليم (مصر و الخليج و اثيوبيا و يوغندا و كينيا و تشاد..) ثم لاحقاً بسبب العقوبات الاقتصادية الاميركية و الأممية.
و لسنا في حاجة لاهمية التدليل علي اهمية العلاقات و التبادل التجاري المفتوح و المتنوع مع العالم و أهمية الاستفادة من الشراكات و نظام الوكالات التجارية (المعتمدة) و ما تضيفه من قيمة للسلع و الخدمات في السوق المحلي..
لكن الضرر الاكبر وصل بنا مرحلة العجز عن تصدير موادنا الخام الاولية (اللحوم و السمسم و الذرة و حب البطيخ و الفول السوداني و الكركدي و الفواكه و الخضار .. الخ) فاصبحت تلك السلع معروفة الان بشهادة منشأ من احدي دول الجوار و لا تقبل الاسواق الدولية حتي الان قبول شهادة المنشأ السودانية !!
كنت قد كتبت قبل الحرب ايام حكومة حمدوك الأولي عن اهمية اعادة تنظيم الاسواق التجارية السودانية عبر بوابة اصلاح قانون الشركات: https://anwarleman.blogspot.com/2023/03/blog-post_3.html?m=1
لاصلاح الاسواق و النشاط التجاري وفق الضوابط التجارية الدولية المعروفة قديماً (كانت مطبقة بدرجة كاملة قبل مايو ١٩٦٩م -سياسات التأميم- و بصورة جزئية بعدها مع خروقات من ذات نظام مايو لصالح التنظيم الاسلامي - البنوك الدينية و شركات التامين و المضاربة العقارية و النقدية الملتصقة بها- و التي عجزت حكومة الديمقراطية الثانية في التعامل معها بما تستحق من اهتمام و اولوية !!) ثم الحديث من تلك النظم و الضوابط (ما استحدث منها في عهود تيهنا المتطاولة)..
ذلك الاصلاح ضروري لانتشال الاقتصاد و لاعادة هيكلته و تنظيمه حتي تتعاظم فائدته (لنفسه و للمجتمع و للدولة)، فالاسواق المنظمة تمكن رجال الاعمال من تطوير اعمالهم بسرعة و علي ثقة من بيئة الاعمال و ثقة في الاطار القانوني (الحقوقي) و بالترييات الادارية الحكومية؛ و تساعد المجتمع علي الاستقرار و النمو وفق سياق ثابت و مفهوم و يعتمد عليه، كما تمكن الدولة و الحكومة نفسها من جني فوائد اكبر عبر الضرائب العادلة و رسوم تراخيص الاستيراد و التصدير و مزاولة العمل.
اما بعد الحرب فان الاقتصاد و الاسواق ستدخل في حالة كمون و تقوقع جديدة نسبة لزيادة مخاطر العمل التجاري و زيادة مخاطر اي عمل اقتصادي انتاجي .. و كما نشطت الطفيلية التجارية في ظل عهود الفوضي فإن طفيلية اشد ضرراً ستتخلق و تنمو في ظل الحرب و ستبلغ قمة سنامها في لوردات الحرب (في داخل جهاز الدولة) و لوردات حرب من خارجه متصلة به بحبال سرية و غير سرية..
ففي اجواء الحرب تختفي كل الضوابط المتبعة لتحقيق نفع عام و تسود بدل عنها علاقات منفعة غايتها تحقيق مكاسب خاصة لفئات محدودة جداً و صغيرة متنفذة جداً.
و في اجواء الحرب ستختفي استثمارات و في اسواق الحرب ستختفي خدمات و سلع كثيرة لأنها لن تكون لها اولوية (خدمات التعليم خير مثال) و تتراجع الآف السلع و تتسيد السلع الضرورية للحياة الاولية فقط.
اسواق دقلو و اسواق البرهان ليست اذاً هي التمظهر الوحيد و لا العرض الوحيد لحالة الحرب القائمة.. و ليس النموذج ولا المثال علي اسواق الحرب، انما هي فقط مقدمة لما سيحدث ان لم يتوقف جنون العنف و الحرب، او هي الجزء الطافي من جبل الجليد كما يقول البحارة ..
ما يروج عن اسواق نخاسة (اتجار في البشر في نسخته الكلاسيكية) هو مؤشر لما انحدرت و تنحدر اليه الامور بتسارع مخيف..
توحش اقتصاد الحرب و اسواقها هي جزء توحش البشرية عندما تتردي الي ما قبل الآدمية (الانسان العاقل).. و تلك وحشية تتقاصر دونها وحشية الاقتصاد الراسمالي النيوليبرالي و اقتصاد الاقطاع ذاته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم ت...

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بين...

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانته...