التخطي إلى المحتوى الرئيسي

محاكمة البشير بين العدالة الوطنية و الدولية

  راجت مؤخرا دعوات لتسليم الرئيس المخلوع لمحكمة الجنايات الدولية التي ظلت تطلبه منذ مارس 2009م دون ان تطاله! في مقابل ان تتم محاكمته عن جرائم دارفور و كل جرائم نظامه منذ يومه الاول.

و لا نريد ان نقارن أو نفاضل بين المحاكمة وطنيا و التسليم دولياً، فقط نريد ان نوضح لماذا ينبغي ان يحكم البشير علي جرائمه و جرائم اركان نظامه في السودان.. و لماذا نصر و سنستمر في الاصرار علي ان يحاكم و يدان و يعاقب وطنياً ..

فأولاً: القاعدة الأصل هي خضوع المجرم لولاية القضاء الوطني، و الاستثناء هو ان يخضع لولاية القضاء الدولي .. و لذا فان المفاضلة بين الأصل و الاستثناء في حالة امكان تحقق الاولي لا يمكن ان تكون لصالح الثانية..

ثانياً: حتي في حالة قيام ظروف تحتم نوع من التدخل العدلي و القضائي الدولي بسبب فداحة جرائم هزت وجدان البشرية و أرقت الضمير الانساني؛ فان حدوث تغيير سياسي يجعل محاكمة المجرم علي الأرض التي ارتكب فيها جرمه ممكناً فان الاولوية تكون لولاية قضاء المكان/ الأرض التي وقعت عليها الجرائم عبر عدالة مشتركة وطنية و دولية في آن واحد كما في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان و المحكمة الدولية الخاصة برواندا (أروشا) و المحكمة الدولية الخاصة بالبلقان..

ثالثاً: ان جرائم البشير متعددة و ضحاياه كثر و لا تقتصر علي الجرائم التي صدرت بشأنها قرارات مجلس الامن و محكمة الجنايات الدولية؛ فثمة جرائم ضد الإنسانية من ايام حرب الجنوب و جرائم ضد الدولة (تقويض النظام الدستوري) و الاضرار بالامن الوطني (محاولة اغتيال الرئيس المصري في اثيوبيا) و جرائم الاضرار بمركز البلاد الاقتصادي و تخريب الاقتصاد الوطني، اضافة لجرائم القتل و التعذيب و التشريد لألاف المواطنين..

رابعاً: البشير لم يرتكب تلك الجرائم بمفرده و معظمها لم يرتكبها بنفسه بل إشترك معه عشرات و مئات و ألاف من أفراد نظامه الاجرامي، و محاكمته بمفرده في الخارج يطمس العديد من الادلة و البينات و الافادات.

خامساً: ان رؤية العدالة و هي تتحقق لا تقل أهمية عن تحقيق العدالة؛ هذه قاعدة تقوم عليها فلسفة العدل و القانون، و رؤية العدالة و هي تتحقق بالنسبة لألاف الضحايا تتطلب ان تتم محاكمة الجاني تحت سمع و بصر الضحايا حتي يكتمل الانصاف؛ لا ان تتم محاكمته بعيدا و بلغة غريبة عنهم!

و رؤية العدالة و هي تتحقق مهمة للمجتمع بأسره و الدولة ايضا و مؤسساتها خصوصا المختصة بحكم القانون و انفاذ العدالة؛ اذ تشكل جزء من خبرتها و ترسخ ممارستها مستقبلاً، كما ان المحاكمة و المقاضاة وطنياً تحقق عنصر الوازع و الرادع الذي يحول دون تكرار هذه الجرائم، اذ ستصبح تلك المحاكمات و التجربة القضائية جزء من الثقافة و الارث الوطني مثلما كانت الانتهاكات و جرائم الجناة (البشير و اعوانه) جزء من ذلك الارث و الوعي الاجتماعي لثلاثين عاماً.

سادساً: يثير البعض شبهات من شاكلة ان القانون الوطني لا يتيح محاكمة البشير علي فظائعه بحجة ان القانون وقت ارتكابه لتلك الجرائم ( جرائم الحرب و الابادة و الجرائم ضد الإنسانية و التطهير العرقي) لم يكن ينص عليها و لذا لا يمكن ان يحاكم بها هنا اذا بعد ذلك محاكمة بأثر رجعي، وإن القانون السوداني لا يسمح اعدام أو سجن من بلغ السبعين من العمر..الخ

و ردنا علي الحاجة الاولي ان القانون العادي الذي كان سائدا يمكن ان يفي بغرض محاكمة و ادانة و معاقبة البشير علي جرائمه، فادانته بأية أو ادني جرم مما اقترف تكفي كي ينال جزاءاً وفاقا، و أن غرض المحاكمات الاساسي هو تجلية وكشف الحقائق و معاقبة الجاني و ليس الانتقام منه أو التشفي، و ان البشرية عندما قررت ان الفظاعات التي ترتكب تقتضي النص علي تحريم جرائم بصيغة اوضح أو ادق و أشد و المحاكمة وفقها و طبقت ذلك علي مجرمي النظام النازي لم يكن العرف القانوني يسمح بذلك، اذ علم القانون الجنائي بتطوره والنص علي تلك الجرائم تطور ايضا و قرر و ضع استثناءات عديدة علي قاعدة عدم رجعية النصوص من بينها الاستثناء الخاص بجواز رجعية القانون في حال كالفظائع تلك.

و نرد علي الحجة الثانية بأن القانون الذي قرر عدم معاقبة الشيوخ بالسجن و الاعدام لم يقرر عدم محاكمتهم أو ادانتهم و مثلما نص علي عدم جواز سجنهم أو اعدامهم فانه نص علي جزاءات بديلة.. كما ان من يستفيد من تلك النصوص هو المجرم العادي و ليس المجرم الذي أستخدم سلطة الدولة لمنع اكتشاف جرائمه و حال دون تحقيق العدالة و أرسي دعائم منظومة متكاملة من الافلات من العقاب و التستر علي الجناة! و كل تلك الأمور يجب ان يترك التقرير فيها للمحاكم لتكون قراراتها جزء من اعمالها و سوابقها و من ارثها القضائي و من ثقافتنا القانونية.

سابعاً: ان دعاوي تسليم البشير ستستغل بالتأكيد من اعداء التغبير والثورة و سيستخدمها اعداء الثورة للانتقاص منها و في التشكيك في كفاءة و اقتدار المؤسسات التي تستعيد الان عافيتها و سيسعون لتوظيفها في محاولات الانقلاب و العودة لنهج البشير و حكم دولة اللاقانون الذي كان سائداً، و هذا ما يقتضي منا التعامل معه بفطنة و حزم لتفويت الفرصة عليهم.

أخيرا: المحكمة الدولية التي ظلت تطالب البشير و تلاحقه لعشر سنوات فشلت في اخضاعه برغم نفوذها و سلطتها و صولجانها! و برغم قوة اساطيل و جيوش حكومات المجتمع الدولي التي تقف خلفها! و 

  لا يعقل ان يسلم لها بعد ان قدر عليه الشعب السوداني الاعزل و اطاح به من الحكم دون اي عون أو مساعدة من اي جهة.. بل و إن اوامر تلك المحكمة تم توظيفها للانتقاص من السيادة الوطنية للدولة السودانية و الشعب السوداني (و ليس الانتقاص من حكم البشير) و وظفت لتمرير اجندة تتعارض مع مصالح السودانيين (علي رأسها وحدة اراضيه و شعبه)، و بعد هذا يراد من الشعب الذي قهر المحال و حقق المعجزة و ارسي اللبنة الاولي (وهي الاطاحة بالبشير و نظام اللا قانون)؛ و يستعد لارساء باقي اللبنات لاقامة دولة حكم القانون و بناء مؤسساتها ان يفرط في ذلك لأجل عدالة دولية لم تخدم له قضية!؟ 

------------------------------

اكتوبر ٢٠١٩م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تفكيك خطاب الحرب و (فلسفة البلابسة)

   الخطاب و الموقف السياسي المساند للحرب و الحسم العسكري و رفض التفاوض و رفض أي حديث عن تسوية سياسية سلمية يعتمد علي استقطاب و تحشيد العوام ممن لا خبرة و لا معرفة لهم بطبيعة الحرب ولا السياسة!    تحشيد العوام هذا خلق تيار جارف اخذ في طريقه حتي بعض "الانتلجنسيا" ممن لا قدرة لهم علي مواجهة العوام او ممن يظنون ان كل هذا الحشد لا يمكن الا ان يكون علي حق، فيحتفظ برأيه لنفسه او حتي يتخلي عنه و ينخرط مع التيار ..!!   في المقام الاول ان لخطاب العنف و التحريض و "الانتقام" جاذبيته؛ و ان للقوة و استعراضها سطوة، مثلما ان لصورة الضحية فعلها؛ اما اذا دمج خطاب الضحايا مع خطاب القدرة علي الانتقام فاننا نحصل علي سيناريو تقليدي للافلام "البوليودية" و كثيرون هنا تفتق وعيهم و انفتح ادراكهم علي افلام الهند! فما يحدث و ما يدعو اليه خطاب الحرب بالنسبة لهؤلاء مفهوم و مستوعب و في مدي تصورهم لذا يرونه ليس واقعياً فحسب بل و بطولي و مغري يستحق ان ينخرطوا فيه بكلياتهم. سؤال الطلقة الأولي: قبل ان يعرف الناس الحقيقة بشأن ما قاد الي هذه الحرب التي انتشرت في مدن السودان و ولاياته ان...

لماذا يفضل الملكيون العرب التعامل مع جمهوريي اميركا؟؟

  لا يخفي الملوك و الامراء العرب "و اعوانهم" ميلهم و تفضيلهم التعامل مع ادارات جمهورية في اميركا و لا يخفون تبرمهم من تنصيب رئيس من الحزب الديمقراطي.. و يبررون ذلك الميل و التفضيل بمبررات مختلفة مثل تعامل الجمهوريين الحاسم مع ايران !! في الواقع فإن اكثر رؤساء اميركان الذين شكلوا اكبر تهديد للعرب و المسلمين هم من الجمهوريين (بوش الأب و الإبن و ترامب - غزو العراق و افغانستان و دعم اسرائيل)! لكن الجمهوريين كما عرب النفط يفهمون لغة المال جيداً و الادارة الجمهورية تضم علي الدوام اشخاص من قطاع الطاقة و النفط او صناعة السلاح او الادوية او حتي صناعة الترفيه "هوليود" يفضلون لغة النقود و المصالح. اذاً اكبر تهديد واجهه العرب و المسلمون من ادارات اميركية كان في فترات حكم جمهوري.. و بعد الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م اعلن بوش الابن سياسة صارمة في مواجهة انظمة اسلامية و عربية (افغانستان و العراق و السودان) كما مارس ضغوط غير مسبوقة علي السعودية اسفر عنها اجراءات حازمة ضد الجماعات المتشددة من الأخيرة، و تغيير في مناهج التعليم المدرسي و الجامعي فيها! الجمهوري ترامب اقدم علي خطوات غير مس...

شرح قانون الوجوه الغريبة !!

  المقصود بقانون الوجوه الغريبة هو اوامر الطوارئ التي صدرت في بعض الولايات بعد اندلاع حرب ١٥ ابريل/الكرامة و خصوصاً بولايتي الجزيرة و نهر النيل.. و هي اما اوامر صدرت من الوالي شفاهة و علي رؤوس الاشهاد او مكتوبة و مفادها ملاحقة ما يعرف ب "المندسين" و الطابور الخامس و من يشتبه في انتماءهم او تخابرهم مع مليشيا الدعم السريع، حيث راج ان المليشيا تدفع بعناصر من استخباراتها و قناصيها الي المناطق التي تنوي احتلالها لتقوم تلك العناصر بالعمل من الداخل بما يسهل مهمة الاحتلال .. و تستهدف الملاحقات الباعة الجائلين و اصحاب المهن الهامشية، و أي شخص تشك فيه السلطات او المواطنين؛ و في اجواء من الارتياب بالغرباء غذتها دعاية الحرب تم الطلب من المواطنين التعاون بالتبليغ و حتي بالقبض و المطاردة علي من يرتابون فيه. قانون او تعاليمات (الوجوه الغريبة) اسفرت عن ممارسات متحيزة "ضد غرباء" تحديداً ينحدرون من اقاليم كردفان و دارفور في ولايات عدة (الجزيرة، و نهر النيل، و كسلا، و الشمالية)؛ فالوجوه الغريبة هي اوامر تأخذ الناس بالسحنة و الملامح؛ و هي ممارسات بالتالي اسوأ مما كانت تمارسه "مح...