التخطي إلى المحتوى الرئيسي

القونات يسحبن البساط من تحت اقدام الجميع !

 فهل يندثر الطرب السوداني؟

في الأشهر و السنوات الأخيرة شهد فن الغناء السوداني رحيل عدد من اعمدة الطرب و الموسيقي الي عالم البقاء ( صلاح بن البادية و عبدالكريم الكابلي و أخيرا الشاعر الغنائي الكبير السر قدور) لهم الرحمة اجمعين.
تزامن مع ذلك صعود موجة اصوات غنائية نسائية جامحة، اشتهرن بتقديم اغاني خفيفة تكاد تكون وليدة اللحظة؛ و يتم فيها ترديد بعض اسماء الحاضرين (سيما العريس و اصدقاءه ان كان الحفل عرس) و عدد من احياء المدينة السكنية و بعضاً من اسماء القبائل و العشائر التي تقطنها؛
يمكن اعتبار تلك الاغنيات تنويع علي ما عرف بأغاني البنات، و تلك لونية اغاني قديمة و معروفة  تشبه الطقطوقة العربية، و تقوم البنات في تجمعاتهن ببيوت الافراح و في جلساتهن الخاصة بالمشاركة في نسج كلماتها؛ و ألحانها؛ و اداءها كذلك؛ فلا يعرف لها مؤلف و لا مؤدي بعينه، كما انها قابلة للحذف و الاضافة حسب الحالة الشعورية و الوجدانية لمجموعة البنات المؤلفات و المؤديات.. و رغم ان تلك اللونية (اغاني البنات) لم تحظي بتقدير الاجهزة الثقافية الرسمية او المجتمعية (المحافظة)، و لم يتاح لها مساحات علي اجهزة البث الا ان ذلك لم يمثل عائق اذ انها انتشرت اجتماعياً مستفيدة من قوة الدفع المتمثلة في خصائصها الفنية و الاجتماعية، فالعمل المتقن فنياً و الذي ينتج عن موهبة ينتشر و يبقي رغم العراقيل.
اما صاحبات تلك الاصوات النسائية الصاعدة بقوة اصطلح علي تسميتهن وسط المعجبين و المعجبات ب"القونات"..
و في ظرف سنوات قليلة سيطرت القونات علي مساحات الغناء ليطغين حتي علي موجة المطربين الشباب امثال طه سليمان و الأخوين أحمد و حسين الصادق و شكرالله عزالدين و حتي الشباب الأكبر سناً و الارسخ قدماً (عصام محمد نور و جمال مصطفي فرفور).. هؤلاء المطربين (يدخل هنا المطرب الراحل صاحب الشعبية الجارفة و سط المستمعين الشباب محمود عبدالعزيز) شكلوا ظاهرة غنائية عرفت وسط النقاد بتقديم "الاغنية الشبابية" و اطلق عليهم لقب فنانين شباب برغم انهم اشتهروا تحديدا بتقديم اللونيات القديمة (اغاني عصر الحقيبة من منتصف القرن الماضي -التي كانت تؤدي بمصاحبة كورس و الة الرق الايقاعية، و الاغنية الحديثة التي تؤدي بمصاحبة اوركسترا او فرقة موسيقية ما بعد منتصف ذات القرن) لجيل المستمعين الشباب، و برغم مجهوداتهم و مجهودات عدد من الملحنين و الشعراء المواكبين لهم (بما فيهم الشاعر القدير السر قدور و الذي عاصر عهد الحقيبة الذهبي و شارك فيه كما شارك في ميلاد الأغنية السودانية الحديثة  و الشاعر الكبير اسحق الحلنقي، و قاسم ابوزيد) الا ان تقديم اعمال خاصة و شبابية حقة بقيت خجولة و لا أثر كبير لها..
ان صعود موجة اصوات المغنيات "القونات" طغي حتي علي اصوات نسائية أخري تؤدي اللونية الرصينة القديمة مع قليل من التجديد (كنانسي عجاج و ايمان الشريف و انصاف فتحي و أسرار بابكر..)
لا أحد يعرف اصل مصطلح قونات "و المفرد قونة" لكنه قريب الي معني "العوالم" و مفردها عالمة كما عرفت في مراحل سابقة من فن الغناء و الطرب المصري الشعبي..
ابرز سمات المطربات "القونات" هي انهن يفتقرن لأدني معرفة موسيقية "منهجية"، كما ان مستواهن التعليمي متدني، كذلك و من يصاحبوهن في كتابة الكلمات كذلك لا يمكن اعتبارهم شعراء قصائد غنائية بالمعني، و من يصيغون لهن الالحان و يصاحبونهن في اداء الموسيقي كذلك لم يتلقوا اي تدريب موسيقي .. و هؤلاء يتألفون في الغالب من عازف علي آلة الاورغن و عازف الة ايقاعية مصاحبة "دُنب - بنقز، او طبل" و هذا في الغالب يعتبر اضافة مقدرة!
و بعد ان كانت الاوركسترا "المتكاملة" التي تصحب المطربين و الفنانين في السابق تضم عازفين برتبة موسيقار بقامة (برعي دفع الله و عربي و بشير عباس و محمدية و حمودة ثم الفاتح حسين و عماد الطيب و أسامة بكلو) فان الساحة الفنية تكتفي اليوم باداء "الربع" او "طاسو" أو غيرهم من من عازفي الاورغن الالكتروني!!
يري بعض المختصين بالموسيقي السودانية و التراث الغنائي ان اغاني "القونات" هي امتداد لغناء البنات المعروف تراثياً و يقول الموسيقي عثمان وداعة: "هذا امتداد لاغاني البنات لكنه انحرف و فقد خفة الروح و العفوية التي امتاز بها غناء البنات و القيم الاجتماعية النبيلة التي تعكسها كلماته".
و اذا كانت الأغنيات تهدف للتربيت علي الاحاسيس و المشاعر و تحفيز القيم فان غناء القونات يعتمد علي "تهييج" الاحاسيس و اثارة غرائز الغرور و الشوفونية.. و يضيف عثمان "اغاني القونات تعتمد علي الايقاع فقط اما لحنياً فهي فقيرة جداً".
و يري عثمان وداعة ان غناء القونات و ان كان تفشي في الوجدان كما يتفشي السرطان في الجسم الا انه محصور في خانة الظواهر الفنية التي تستشري فجأة لكنها تندثر بذات الكيفية، و يقول بمسؤولية مجلس المهن الموسيقية و الذي استحدث مؤخراً (قبل سبع سنوات) الا انه فشل في اداء مهامه (المحافظة علي الموسيقي و فن الغناء و تطويرهما)، و حسب قانون المجلس فان المغنين و الموسيقيين غير الحاصلين علي ترخيص فني يمنعون من ممارسة المهن الموسيقية كاحتراف..
و يعتبر عثمان وداعة ان حل مجلس المهن الموسيقية و احالة اختصاصاته لنقابة الموسيقيين هو من الحلول الفعالة لانتشال المشهد الفني و الموسيقي من حالة الفوضي و العشوائية.
حدث فراغ فني نتيجة سياسات ثقافية معينة معادية للفن و الثقافة و معادية تحديداً للتجمعات الثقافية، تلك السياسات ظلت معتمدة لثلاثين عاماً (عمر النظام البائد) من قبل المؤسسة الثقافية الرسمية و الكيانات الخاصة (الثقافية و الاعلامية و التعليمية) الموالية له و المقربة منه .. فهاجر عدد كبير من الفنانيين و الموسيقيين، و لأن الحياة بطبيعتها لا تقبل الفراغ كان يمكن لكل من لديه مادة مهما كانت و مهما قل مضمونها ان يملأ هذا الفراغ! و القونات كما المطربين "الشباب" ملأوا هذا الفراغ و ستستمر القونات في ذلك حتي تتعافي الساحة الثقافية.. او تحل محلهم اصوات اخري لتشغل ذات الفراغ، و القونات مؤخراً وجدن منافس لا يستهان به و هم مغنين البوادي، الذين يقدمون لونية جديدة أشبه بجلالات الكتائب العسكرية الحماسية و لها معجبون و مستمعون كذلك كُثر !!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تفكيك خطاب الحرب و (فلسفة البلابسة)

   الخطاب و الموقف السياسي المساند للحرب و الحسم العسكري و رفض التفاوض و رفض أي حديث عن تسوية سياسية سلمية يعتمد علي استقطاب و تحشيد العوام ممن لا خبرة و لا معرفة لهم بطبيعة الحرب ولا السياسة!    تحشيد العوام هذا خلق تيار جارف اخذ في طريقه حتي بعض "الانتلجنسيا" ممن لا قدرة لهم علي مواجهة العوام او ممن يظنون ان كل هذا الحشد لا يمكن الا ان يكون علي حق، فيحتفظ برأيه لنفسه او حتي يتخلي عنه و ينخرط مع التيار ..!!   في المقام الاول ان لخطاب العنف و التحريض و "الانتقام" جاذبيته؛ و ان للقوة و استعراضها سطوة، مثلما ان لصورة الضحية فعلها؛ اما اذا دمج خطاب الضحايا مع خطاب القدرة علي الانتقام فاننا نحصل علي سيناريو تقليدي للافلام "البوليودية" و كثيرون هنا تفتق وعيهم و انفتح ادراكهم علي افلام الهند! فما يحدث و ما يدعو اليه خطاب الحرب بالنسبة لهؤلاء مفهوم و مستوعب و في مدي تصورهم لذا يرونه ليس واقعياً فحسب بل و بطولي و مغري يستحق ان ينخرطوا فيه بكلياتهم. سؤال الطلقة الأولي: قبل ان يعرف الناس الحقيقة بشأن ما قاد الي هذه الحرب التي انتشرت في مدن السودان و ولاياته ان...

لماذا يفضل الملكيون العرب التعامل مع جمهوريي اميركا؟؟

  لا يخفي الملوك و الامراء العرب "و اعوانهم" ميلهم و تفضيلهم التعامل مع ادارات جمهورية في اميركا و لا يخفون تبرمهم من تنصيب رئيس من الحزب الديمقراطي.. و يبررون ذلك الميل و التفضيل بمبررات مختلفة مثل تعامل الجمهوريين الحاسم مع ايران !! في الواقع فإن اكثر رؤساء اميركان الذين شكلوا اكبر تهديد للعرب و المسلمين هم من الجمهوريين (بوش الأب و الإبن و ترامب - غزو العراق و افغانستان و دعم اسرائيل)! لكن الجمهوريين كما عرب النفط يفهمون لغة المال جيداً و الادارة الجمهورية تضم علي الدوام اشخاص من قطاع الطاقة و النفط او صناعة السلاح او الادوية او حتي صناعة الترفيه "هوليود" يفضلون لغة النقود و المصالح. اذاً اكبر تهديد واجهه العرب و المسلمون من ادارات اميركية كان في فترات حكم جمهوري.. و بعد الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م اعلن بوش الابن سياسة صارمة في مواجهة انظمة اسلامية و عربية (افغانستان و العراق و السودان) كما مارس ضغوط غير مسبوقة علي السعودية اسفر عنها اجراءات حازمة ضد الجماعات المتشددة من الأخيرة، و تغيير في مناهج التعليم المدرسي و الجامعي فيها! الجمهوري ترامب اقدم علي خطوات غير مس...

شرح قانون الوجوه الغريبة !!

  المقصود بقانون الوجوه الغريبة هو اوامر الطوارئ التي صدرت في بعض الولايات بعد اندلاع حرب ١٥ ابريل/الكرامة و خصوصاً بولايتي الجزيرة و نهر النيل.. و هي اما اوامر صدرت من الوالي شفاهة و علي رؤوس الاشهاد او مكتوبة و مفادها ملاحقة ما يعرف ب "المندسين" و الطابور الخامس و من يشتبه في انتماءهم او تخابرهم مع مليشيا الدعم السريع، حيث راج ان المليشيا تدفع بعناصر من استخباراتها و قناصيها الي المناطق التي تنوي احتلالها لتقوم تلك العناصر بالعمل من الداخل بما يسهل مهمة الاحتلال .. و تستهدف الملاحقات الباعة الجائلين و اصحاب المهن الهامشية، و أي شخص تشك فيه السلطات او المواطنين؛ و في اجواء من الارتياب بالغرباء غذتها دعاية الحرب تم الطلب من المواطنين التعاون بالتبليغ و حتي بالقبض و المطاردة علي من يرتابون فيه. قانون او تعاليمات (الوجوه الغريبة) اسفرت عن ممارسات متحيزة "ضد غرباء" تحديداً ينحدرون من اقاليم كردفان و دارفور في ولايات عدة (الجزيرة، و نهر النيل، و كسلا، و الشمالية)؛ فالوجوه الغريبة هي اوامر تأخذ الناس بالسحنة و الملامح؛ و هي ممارسات بالتالي اسوأ مما كانت تمارسه "مح...