عن فشل صيغ العمل الجماعي الحديث (السياسي و الاقتصادي) في السودان - الديمقراطية و الأحزاب و المنظمات و الجمعيات و شركات المساهمة العامة ..
هل المشكلة في الصيغ ام التطبيق ام الاستيعاب؟!
البعض يعزي فشل تجارب الديمقراطيات و فشل الأحزاب الي ان صيغ العمل الحديث لا تصلح للسودان، هذا التقرير يقدمه كثير من العوام و بعض المتعلمين و تستغله الجهات التي تسعي للانقلاب علي السلطة .. و يقدمونه دون اي حجة دامغة مع ان الديمقراطية لم تسود في السودان الا لفترات قصيرة جداً !
لا يكلف من يردد تلك الاحكام "عدم صلاحية الديمقراطية و قيمها و عدم تناسبها مع ظروف السودان و المجتمع السوداني" نفسه بالبحث في ذلك و ما هي التعديلات التي يمكن ادخالها علي الديمقراطية حتي تتناسب مع المجتمع و الدولة في السودان؟!
في الواقع ليست مؤسسات الحكم الديمقراطي و الحياة السياسية الديمقراطية الحديثة ليست وحدها التي لم تنجح في السودان بل كل مؤسسات المجتمع و الدولة الحديثة! فالاحزاب فاشلة، و مؤسسات الحكم الرسمية نفسها فاشلة، و منظمات العمل الطوعي و المدني كذلك فاشلة، و اشكال العمل الاقتصاد الحديثة "الشركات التجارية و علي رأسها شركات المساهمة العامة" ايضاً فاشلة! باختصار كل صيغ و اشكال العمل الجماعي الحديث فشلت او بالأحري فشلت مشاريع تنفيذها في السودان..
و العلة ليست في ان تلك الصيغ لا تلائم المجتمع السوداني؛ بل ان المجتمع "بنخبه خصوصاً" لم يستوعبوا تلك الصيغ و لم يفهموها و بالتالي لم يتم تطبيقها و ممارستها وفق الاصول الضرورية و اللازمة، بل يتم اجتزاء بعض فروعها و اشكالها لتحقيق اهداف و مصالح افراد او مجموعات بعينها و من ثم الانقلاب عليها متي كان تطبيقها خصماً علي تلك المصالح، أو لم تستوعبها و بالتالي لم يتم شرحها للجمهور بالقدر الضروري حتي يفهمها الشعب و من ثم يشرف علي تطبيقها تطبيقاً سليماً.. و يتصدي للدفاع عنها حينما تعتدي عليها جهة ما او تنتقص منها.
لعل السبب في تلك الممارسة اننا مجتمع اقرب الي البداوة، انتقلنا الي المدنية لكن دون ان نكتسب صفات المدنية او نمتلك ادواتها و نتخلص من صفات البدو.. و حتي من انتخبوا منا اولاً لقيادة مرحلة المدنية "خريجي غردون التذكارية و كتشنر الطبية و بخت الرضا و اخواتهن من مؤسسات اعداد كادر الصف الأول الاداري - ثم السياسي"، استغلوا ميزة الحداثة ليحسنوا مراكزهم الشخصية و دخلوا في مساومات خاسرة مع اصحاب الامتياز التقليدي (زعماء القبائل و زعامات الطوائف) و تواطأوا معها لصالح استمرار "دولة" مؤسسات البداوة!
نحن بدو و البدوي لا يعرف المؤسسة (الشخص الاعتباري) بل يعرف الشخص الطبيعي و كل تعويله علي الشخص و صفاته و خصاله لا علي النظم و لوائحها .. الخ
لذا لا تفشل الصيغة السياسية "الحزب" وحدها "فيدخل الحزب عندنا في دوامة من الانقسامات اللامتناهية و بالتأكيد ليس بسبب خلاف سياسي او برامجي او بسبب تباين مصالح عضويته انما لأسباب شخصية و لأفراد معدودين؛ يبحثون عن مكاسب خاصة و نفوذ يرضي غرورهم و طموحهم للمناصب و الزعامة و السلطة و المال.. فيما يساق الاخرون بالتبعية "ذات تبعية الصيغ ما قبل الحديثة"؛ ليس ذلك و حسب، بل تفشل الصيغ الاجتماعية و الاقتصادية "المنظمات و النقابات و الجمعيات و الشراكات و الشركات كذلك، و سائر صيغ و اشكال العمل الجماعي التي تتطلب ادارة الخلاف و الحفاظ علي وحدة الارادة و جماعية العمل و التحرك و القيادة "المؤسسية" ...
و هذه ليست مشكلة المجتمع او المواطن (الشعب) كما يعتقد الكثيرون و ابرزهم صاحب اطروحة العقل الرعوي (د. النور حمد) انما مشكلة منظومة كاملة و مشكلة سلطة و نخب تولت مقاليد الأمور و كانت بين يديها ادوات نشر الوعي و تقوية المدنية و المؤسسيات (التعليم و التثقيف- المعاهد، و الجامعات، و المدارس، و الصحف و الاذاعة، و التلفزيون، و السينما، و المسرح.. الخ) لكن تلك النخب استغلت التعليم لتقوية سلطتها لا لتقوية المدنية، و نكصت الي البداوة لتحافظ علي سلطتها فارتددنا عن الدولة الوطنية الي "دولة" الولاءات القبلية و العشيرة و الجهة و العصبية الدينية و المذهبية و سائر متلازمات البداوة!
اذاً المشكلة ليست في الصيغ الحديثة للعمل المدني انما في استيعابنا نحن لتلك الصيغ و في الطريقة التي طبقناها بها، فقد كنا نأتي بالشكل الحديث (حزب او منظمة او شركة) فنعمد اليه و نفرغه من مضمونه الحديث حتي لا تبقي الا القشور و نملأه بمقتضيات البداوة و حين نفشل نحن و تفشل تجربتنا و تطبيقاتنا نقول ان الحداثة هي التي فشلت و انها لا تلائم مجتمعنا فنعود الي البداوة في انقي صورها و دون حتي قشرة الحداثة!
٢٦ /٢ / ٢٠٢١م
#خارج_الصندوق
تعليقات
إرسال تعليق