التخطي إلى المحتوى الرئيسي

السودان و أزماته: معقد في سطحه .. سهل في حقيقته


لطالما وقعت العديد من القوي الدولية و العديد من السياسيين والعسكريين والعديد من الموظفين الامميين والمراقبين والصحفيين في اخطاء وسوء تقدير نتيجة لانخداعهم بتعقيدات السطح السوداني، منذ عهود الاستعمار "إسماعيل باشا وغردون باشا وسلاطين باشا" الي العصر الحالي  "يان برونك و عائشة بصري"؛ و لطالما وقع اوروبيون اسري لسحر هذه التركيبة و المزيج الخاص بين البساطة والتعقيد فانغمسوا حتي النخاع في تفاصيل الحياة السودانية و اصبحوا سودانيين اكثر من كثير منا، من نماذج هذا الوجه المشرق الخواجة "عبد القادر" و عالم الآثار السويسري شارل بونيه و الاكاديمية و زوجة العالم عبد الله الطيب السيدة جيرزلدا و ايضا الاكاديمية استاذة اللغة الفرنسية بجامعة الخرطوم السيدة "مس ياجي"..
بينما مثل اخرون الوجه المأساوي لعدم فهم المعادلة..
فاسماعيل ابن محمد علي بك الكبير مؤسس مصر الحديثة جاء السودان غازيا و ظن ان في وسعه التصرف كما يحلو له مثلما يفعل في ارياف مصر؛ فكانت ميتته الشنيعة و التي القت بظلالها علي مجمل حقبة الحكومات التركية-المصرية في السودان؛ ليس و حسب انما حددت مصير علاقة السودانيين بالعالم المعاصر وبانظمة الحكم الحديثة "الحكومة"!! فظلوا دوما في حالة تشكك و توجس من الحكومات؛ الاجنبي منها و الوطني.
و الجنرال شارلس غردون اخذ بسحر الحياة السودانية و لم يجد منها فكاكا اذ ظل يروح و يجئ الي السودان حتي لقي حتفه فيه وحيدا و محاصرا و مقتولا، فغردون لم يفهم السودانيون جيدا و ادار الشأن السياسي فيه بالعقلية الاستعمارية ذاتها التي ادارت مستعمرات الصين و الهند! انغمس في الشأن السوداني و اعمل عقليته الاوروبية في تفكيك بني المجتمع السوداني السياسية والعشائرية و الروحية فتسبب في انهاء ظاهرة "الزبير باشا" لكنه اسهم في صناعة الظاهرة "المهدية"! و ما لا يعلمه الكثيرون ان كل اركان حرب قوات الزبير "البازنجر" مثلوا العمود الفقري لجيش المهدية و لب العقلية الحربية لها "النجومي، ابوعنجة، طمل، عنقرة، محمود ود احمد..الخ"!
تعلق غردون باشا بالسودانيين و حياتهم و بالنيل لكنه لم يستوعب طبيعة الشخصية السودانية جيدا "تلك الشخصية المعقدة في سطحها انما بسيطة جدا في دخيلتها وعمقها" فتعامل معها علي حسب التعقيد الذي بدا له لذا لم يستطيع النفاذ الي عمقها ولذا دفع ثمن هذا التعلق والحب غاليا.
كذلك الشاب النمساوي "رودلف سلاطين" اتي الي هذه البلاد باحثا عن مغامرة سريعة طائشة ليعود و يرويها لرصفائه في أوروبا،  فعينه غردون مستشارا ماليا ثم حاكما علي دارفور فسقط في فخ هذه البلاد الكبيرة و دفع ثمن ذلك اثنتي عشر سنة اسيرا لدي "الخليفة" و رغم انه فعل كل ما خطر له لينفذ لعمق هذه البلاد استعصمت عليه ولم يجده حتي زعمه اعتناق الاسلام و "عملية الختان التي اجراها"!
كذلك ممثل الامين العام للأمم المتحدة "يان برونك" ابان حقبة نيفاشا وجد نفسها عالقا في رمال تعقيدات السياسة والمجتمع السوداني حتي ظن انه و مكتبه جزء من هذا المجتمع وطفق يتصرف علي هذا الأساس حتي كلفه هذا الأمر وظيفته المرموقة!
كذا الموظفة الرفيعة لدي مكتب البعثة المشتركة في دارفور "يوناميد" عائشة بصري انغمست في الشأن السوداني بتعقيدات سطحه حتي ظنت نفسها احدي مكونات ذلك التعقيد ولم تستطيع الاستمرار علي هذا المنوال فتقدمت باستقالتها!
وما صدق علي الاشخاص يصدق حتي بالنسبة للقضايا، فازمة ومشكلة و حرب جنوب السودان ظنها العالم احدي اعقد القضايا المعاصرة لأنها بحسب الظاهر تسببت بحرب اندلعت اولا في 1955م ثم تجددت في 1983م مع فترات هدنة قصيرة و متوترة، فأسموها اطول الحروب الأهلية في افريقيا، و لكن حينما ضغط العالم لتسويتها؛ علي نظام البشير الذي يمثل قمة التطرف في الشخصية السودانية بحلفاءه من صقور الحرب الدينية المقدسة "الجهاد"؛ و علي جنرالات قرنق و حركته ذات الابعاد اليسارية و التحالفات مع اليسار العلماني اليمين العالمي-المسيحي، كان الوسطاء يتجسبون ويتهيبون لحظة وضع وفدا الحكومة والحركة علي طاولة التفاوض المباشر؛ فتفاجأوا بالمصافحة والعناق الحميم و لحظات سرد الذكريات التي اهدرت دقائق وساعات الجلسات!
ثم سارت الأمور بين المفاوضات والاتفاقيات والتنفيذ و الي فصل الاقليم الجنوبي دون اي عقبات تذكر، و لكن لأنهم حلوا مشاكل و تعقيدات السطح انقسم السودان ولم تحل أية مشكلة للبلدين بل تقسمت المشكلة عليهما بالتساوي و يصارع كل من شعب الشمال والجنوب من اجل الديمقراطية و الحقوق المدنية والاقتصادية! وضد دكتاتورية البشير في الخرطوم و دكتاتورية سلفاكير في جوبا! 
كذلك أزمة دارفور والتي ظن العالم انه بصدد ازمة كالبلقان و رواندا فعملت مؤسساته الاعلامية و البحثية و وزارات الخارجية علي الاستعداد لأزمة مزمنة! ذلك لأنهم اتبعوا الدعاية الحربية للحركات المسلحة الخارجة عن السلطة و ( بعضها خرج من صلب السلطة نفسها ) و الدعاية السياسية للحكومة والتي تمثل بدورها سلطة فصيل خارج عن الدولة وعن المجتمع... و بمرور الوقت هدأت دارفور من تلقاء نفسها و دون أي تأثير لمبادرات دولية او وساطات اقليمية! و لولا بروقراطية و انتهازية العاملين بوكالات الأمم المتحدة و الاتحاد الأفريقي لما بقيت البعثة المشتركة طيلة هذا الوقت مع العلم انها لم تقدم شئ يذكر، بل و حتي جنود حفظ السلام فيها بقوا تحت رحمة و حماية قوات الحكومة والحركات المسلحة فهي قوات ضعيفو وعاجزة عن حفظ امن و سلام نفسها ناهيك عن ان تحفظ ام وسلام الدارفوريين! فما حدث بدارفور لم يكن خاصا بها بل هي اتثر وانفعال كان يمكن ان يحدث في وسط السودان او شرقه او شماله حتي، فهي نتيجة لسياسات و عرض لعلة و ليست ازمة مستقلة.
كما ان نظام البشير و حلفاءه من شيوخ الاسلام السياسي و من نفعيين المجتمع السوداني ( وما من مجتمع يخلوا من النفعيين الذين يعلون مصالحهم الشخصية علي مصالح قومهم و وطنهم ) والذي حارت فيه امريكا و القوي الغربية الاخري و قوي اقليمية عديدة بينها مصر والسعودية والامارات و الكويت و اثيوبيا و اريتريا و يوغندا و تشاد.. الخ فاختار بعضهم التعايش معه بعد ان اعيتهم الحيل في اقتلاعه و ظنوا ان جذوره راسخة، فاذا بشابات و شباب السودان يقتلعونه بعد انتفاضة و احتجاجات سلمية راقية قدموا فيها مستويات رفيعة من الوعي والانضباط والثبات والصبر.. و لم تكن معظم مراكز "التفكير" و التنبؤ والسفارات الغربية والاقليمية تتكهن بأن البشير سيسقط حتي قبل سقوطه بايام او ساعات حتي!
كل ذلك لأنهم لم يفهموا طبيعة المجتمع السوداني والشخصية السودانية المعقدة و المتشابكة الابعاد في سطحها الظاهر والبسيطة في اكمل ايات البساطة في عمقها!
ان في امكان أي شخص ان ينال من السوداني كل ما يريد بل واكثر مما يريد ان نفذ الي عمقه من الطريق الصحيح؛ عن طريق الاحترام و بالتهذيب وبالاقناع المنطقي، اما اذا نهج لذلك سبيل الارغام والتخويف او القوة فانه لن ينال من السوداني الا الأذي.
ان جملة واحدة من رسالة 'الصحابي' عبدالله ابن ابي السرح للصحابي امير المؤمنين 'عثمان بن عفان' لو قرأها المراقبون الدوليين لأعانتهم في فهم طبيعة السودانيين؛ تلك الرسالة التي قال فيها للأمير ضمن ما قال و طالبا الاذن في مصالحة السودانيين وتوقيع معاهدة البقط:"ان ما يستنقذ من هؤلاء القوم لقليل و ان نكايتهم شديدة"!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم ت...

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بين...

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانته...