التخطي إلى المحتوى الرئيسي

جدار برلين: ليس مجرد جدار

   جدار برلين لم يكن أبداً مجرد جدار خرساني أو معدني أو اسلاك شائكة؛ ففي المستهل لم يكن أي من تلك المواد مستخدماً فيه عند تقاسم برلين نتيجة لانتهاء الحرب العالمية الثانية و سقوط سلطة الحزب النازي سنة 1945م، كان الجدار معنوياً، بينما لم يتم تشييده فعلاً إلا اوائل ستينات القرن الماضي، الجدار كان بامتياز جدار معنوي ليس بين معسكرين فقط بل بين عالمين، بين الشرق الشيوعي و الغرب الرأسمالي، و بين معسكرين احدهم لا يعترف إلا بسلطة المادة و العلم و لا يري أهمية لحرية الفرد شخصية كانت أو عامة و يقلل من أهمية و قيمة الايمان الديني (اياً كان)؛ و آخر يعترف بسلطة المادة و سطوة العلم و يقدر حريات الفرد و الجماعة و يعلي من شأن الايمان (لا سيما الايمان المسيحي) أو هو يحد من نفوذه علي مؤسسات الدولة و السياسة لكن يوظفه في اغراص التعبئة الوطنية بالأحري ، إذاً كان المعسكران متفقان بشأن العلم، بل و دخلا في تنافس محموم فيه خصوصا لجهة تحقيق تفوق صناعي و حربي تحديداً حتي بلغا الذروة في (حرب النجوم) للتحكم في الفضاء بعد ان قسما النفوذ في الأرض بينهما..

  لكن الجدار و قبل تشييده كان نقطة ضعف بائنة في بناء الشرق الشيوعي، لذا كانت الغالبية الساحقة من محاولات اختراقه و النفاذ عبره هي لهاربين من الشرق نحو الغرب، هاربين من الاضطهاد السياسي و الديني و الاقتصادي ايضا، هاربين من فردوس الاشتراكية المزعوم الي جحيم الرأسمالية بحسب ما صورته الدعاية الشيوعية! كانوا هاربين من شبح برودة معتقلات سيبيريا الجليدية و من ادوات تعذيب معتقلات ال (كي جي بي) الحديدية.. لم تكن هناك إلا حالات هروب قليلة جداً بالاتجاه المعاكس و كانت في الغالب لجواسيس انكشف امرهم!

لذا كان واضحاً منذ أيام الحرب الباردة ان النموذج الغربي ليس كما تصوره دعاية مخابرات الدولة الشيوعية التي تنتجها معامل الحزب (حزب الكادحين!) و جهاز مخابراتها، بل علي العكس هو نموذج جذاب و اخآذ يتمني كل أسري دولة الطبقة العاملة ان يلجأوا إليه!!!

لقد كانت كل التدابير الاحترازية المتمثلة في 14 الف جندي و 600 كلب حراسة و

300 برج مراقبة هي في حقيقتها لحماية حكم النخبة التي تسيطر نيابة عن (البروليتاريا/العمال) و باسمها و لتأمين امتيازاتها و لحماية سلطتها و دولتها التي تحميها في الاساس بستار كثيف من التكتم و السرية!

  لذا كان سقوط الجدار في نوفمبر 1989م (بالمناسبة انهار الجدار نتيجة خطأ اثر تصريح غير موفق للمتحدث باسم الحزب الحاكم في برلين الشرقية-الشيوعية، فقد كان الرجل يقصد ان يقول ان القيود علي التنقل بين قسمي المدينة ستُخفف ففهم "الأسري" انها ستُزال، فهجموا علي الجدار ما أدي لأن تفقد الاجهزة الأمنية السيطرة عليه و تنسحب تاركة الجدار تحت سطوة الهاربين) كان بمثابة إعلان عالمي عن سقوط المعسكر الشرقي و النهج الماركسي السوفيتي.. و بالفعل سقط الحزب الشيوعي الحاكمة في المانيا (الديمقراطية) و توحدت برلين و توحدت المانيا، و بعد أشهر معدودة سقط الحزب الشيوعي السوفيتي و تفككت امبراطويته الي عشرات الجمهوريات المستقلة..

كان سقوط الجدار ايضاً بمثابة انذار لكل الاحزاب الشيوعية الحاكمة أو المعارضة في باقي اقطار العالم بأن ذات المصير ينتظرها و عليها أما ان توائم نهجها و فكرها مع الليبرالية و السوق الحر أو ان تنتظر حتفها.. و بالفعل سقطت معظمها في تسلسل يشبه سقوط قطع الدومينو "في شرق اوروبا و في أسيآ و افريقيا" وعدلت بقيتها مواقفها عدا قلة (كوبا و كوريا الشمالية) استفادت في البقاء من عوامل لا صلة لها بماركس و لا انجلز و لا لينين و خليفته ستالين الرهيب..

 من الاحزاب الشيوعية التي لم تعدل مواقفها كان حزب الشيوعيين السودانيين!! الذي استفاد من حالة الكمون التي فرضها وصول تيار يميني اصولي الحكم في الخرطوم قبل سقوط الجدار بأشهر معدودات (يونيو 1989م). فقد حتّم ذلك الانقلاب اليميني المتطرف علي حزب اليسار المتطرف ان يلجأ كعادة الشيوعيين الي اسلوب العمل السري لكنه في الواقع استغل غطاء العمل السري ليدخل في حالة بيات طويلة حتي يستوعب قادته ابعاد حدث السقوط الشيوعي الذي رمز له سقوط جدار برلين! و ربما كان الحزب الشيوعي السوداني من الأحزاب الشيوعية و الاشتراكية "التقدمية و اليسارية .. الي آخر مفردات و الأوصاف من قاموس المفضلات الماركسي" القليلة في العالم التي لم تتأثر بحادثة انهيار الجدار المزلزلة! لأن قادته كانوا مشغولين بالتخفي و "التأمين"!!

لم يخلص قادة الشيوعي السوداني الي اي استنتاجات تبرر بقاء و استمرار حزبهم بعد ما حدث لكن طول أمد حكم خصمهم اليميني برر لهم السكوت و راهنوا "علي ما يبدو" علي عامل النسيان؛ أي ان ينسي الناس قصة سقوط النموذج الشيوعي و لا يطالبونهم بأي شروحات أو توضيح!

هل نحن بحاجة لأن يهمس احدنا في أذن (شيوخ الحزب الشيوعي السودان) قائلاً: لقد سقط جدار برلين منذ وقت طويل!

#سقوط_الجدار

•••••••••••••••••••••

نوفمبر ٢٠١٩م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم تفريغ الجامعات والمعاهد من اي مضمون واضحت الدرجات العلمية مجرد القاب مملكة في غير موضعها...     فاحاديث الرجل لا توحي بشئ في هذا المضمار.. التخصص، كما ان المعلومات المتوافرة في قصاصات الصحف ولقاءات الاذعة لم تفصح عن شئ ايضا!    السيرة الذاتية المتوافرة علي موقعي البرلمان السوداني 'المجلس الوطني' و البرلمان العربي تقول ان البروف-الشيخ حاصل علي بكالريوس العلوم في الفيزياء و ايضا بكالريوس الاداب-علوم سياسية من جامعة الخرطوم! ثم دكتوراة فلسفة العلوم من جامعة كيمبردج. اي شهادتين بكالريوس و شهادة دكتوراة. مامن اشارة لدرجة بروفسير "بروف" والتي يبدو ان زملاءه في السلطة والاعلام هم من منحوه اياها!!    سيرة ذاتية متناقضة وملتبسة تمثل خير عنوان للشخصية التي تمثلها وللادوار السياسية والتنفيذية التي لعبتها!    ابرز ظهور لشخصية الشيخ-البروف كان ابان صراع و مفاصلة الاسلاموين، حينها انحاز البروف لف

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بينها ع

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانتهازيين علي اختلاف مشاربهم ( مؤتمر وطني، و مؤتمر شعبي،اخوان مسلمين، سلفيين، سبدرات، وابوكلابيش، والراحل شدو، اتحاديين الميرغني، و حاتم السر، و الدقير، و احمد بلال، واشراقة سيد، و احزاب امة مسار، و نهار، و مبارك المهدي، وحسن اسماعيل.. الخ ) و غيرهم يحاولون جميعا تصوير الأمر علي انه يعني سقوط البشير لوحده!   البشير لم يسقط وحده، فهو يرمز لعهد باكمله، و يرمز لاسلوب في الحكم و الإدارة وتسيير الشأن العام ( السياسة )، و بسقوطه سقط مجمل ذلك العهد و اسلوب الحكم و السياسة و الادارة..   و سقط ايضا كل من اعانوه او اشتركوا معه و كانوا جزء من نظامه في اي مرحلة من مراحله المقيتة. و حين تقوم مؤسسات العدالة وتنهض لاداء دورها سيتم تحديد المسؤوليات بدقة و بميزانها الصارم و سيتم توضيح ( من فعل ماذا؟ و من تخاذل متي؟ ). البشير لم يحكم وحده حتي وان استبد في اخريات ايامه و سنوات، بل كان له مساعدون و اعوان في ذلك الاستبداد و داعمين لان