التمكين لم يكن عمل طارئ و عارض و عفوي،
انما سياسة رسمية و عمل ممنهج و مدروس لاعادة هندسة السكان اجتماعياً و خلق طبقة قوية موالية للسلطة،
عمل بهذه الكيفية لا يمكن محاربته بقانون "انتقالي" انما تتطلب استراتيجية تضع اساس قابل للاستمرارية يعمل علي مسارين متوازيين..
الأول: يعالج و يفكك تمكين السنوات الثلاثين من حكم الحركة الاسلامية
الثاني: يمنع القيام بعمليات تمكين في الحاضر و المستقبل
- ميادين التمكين:
* الاراضي: و تحويلها لسلعة مضاربة
* الوظائف و تحويلها الي امتيازات و حواكير تمنح للمقربين (وظائف الدولة و حصتها في وظائف المنظمات الدولية و الاقليمية..)
* المال و تحويل المال العام (و تمويل البنوك) لهبات تمنح للمقربين.
تمكين الأراضي:
معروف ان الارض هي أحد عوامل الانتاج (بالاضافة لرأس المال و العمل) و هي أحد عوامل التنمية الرئيسية،
و قد اهتم الاسلامويين بالسيطرة عليها للسيطرة علي الاقتصاد، و لأنهم لم يملكوا مشروع تنموي للبلاد اصبح امتلاك الارض في حد ذاته غاية، و لم تعد الأرض أحد عوامل الانتاج انما اصبح سلعة للمضاربة في السوق..
و لأن الاسلامويين هيمنوا علي سلطة القرار في ما يخص بسياسات الاراضي و الاسكان، فقد شرعوا في التلاعب بتلك القرارات لصالح اغناء عناصرهم عبر تحويل الارض الزراعية الي سكنية (التحسين) و بمساعدة سلطات التمويل التي اصبحت في ايديهم بالكامل (بعد ان كانوا يهيمنون علي مجموعة البنوك الاسلاموية) اصبحوا يهيمنون علي كل البنوك التجارية و الحكومية و علي أبو البنوك (بنك السودان المركزي) فانهم تحصلوا علي المال اللازم "قروض" لشراء الافدنة الزراعية و بمساعدة نفوذهم حولوها لمئات القطع السكنية و هكذا تحولوا بين عشية و ضحاها الي (مليارديرات).. و لأن الارض بالمدن اصبحت سلعة ممتازة للمضاربة كان من الطبيعي ان يتنافسوا في حيازتها فتجد من يمتلك مائة قطعة ارض و من يمتلك مئتان...
تمكين الوظائف:
السيطرة علي السلطة اقتضي خلق طبقة بروقراطية (من شاغلي الوظيفة العامة) موالية، لذا سعي الاسلامويين الي التمكين لعناصرهم في جهاز الحكم المدني و العسكري حتي قبل ان يصلوا للسلطة. فعقب مصالحة ١٩٧٧م مع نظام جعفر نميري شغل اسلامويين مناصب وزارية في ذلك النظام (احمد عبدالرحمن في وزارة الداخلية و حسن الترابي في وزارة العدل..الخ) و عملوا علي الدفع بكوادرهم الي مراكز متقدمة بمختلف اجهزة الحكومة التنفيذية و الخدمة المدنية..
وظائف الدولة:
بعد نجاحهم في الانفراد بالحكم في ١٩٨٩م سرعوا و تيرة سيطرتهم علي الخدمة العامة عبر السيطرة اولاً علي كل المناصب التنفيذية و القيادية ثم عملوا ثانياً علي ابعاد كل العناصر المناوئة او حتي تلك التي هي فقط غير موالية لهم من بقية المناصب الوسيطة عبر سياسة (الفصل للصالح العام).. و أخيراً احكموا سيطرتهم علي الوظائف الدنيا (مدخل الخدمة) و لثلاثين عاماً كانوا هم من يضع معايير الالتحاق بجهاز الدولة و هم من يحدد من يلتحق به و من لا .. و بذلك ضمنوا السيطرة الكاملة علي جهاز الدولة.
وظائف المنظمات الدولية و الطوعية:
لم يكتفوا بالتمكين في الدولة بل امتدت سياستهم الي منظمات المجتمع المدني، و بحكم ان منظمات كبيرة و كثيرة كانت تحت يدهم (الدعوة الاسلامية، الاغاثة الاسلامية)و وضعوا يدهم بعد انقلاب ١٩٨٩م علي الهلال الاحمر، و المنظمات التي يسيطر عليها تنظيم الاخوان الدولي (قطر الخيرية، البر الدولية، لجنة مسلمي افريقيا..الخ)، و خلال ثلاثين عام اسسوا المئات من المنظمات التي تخدم سياستهم و تساهم في تمكين فئات و عناصر موالية لهم..
كما امتد تمكين عناصرهم الي المنظمات الاقليمية و الدولية التي للسودان حصة في وظائفها (الاتحاد الافريقي، الجامعة العربية، و الايقاد..) ..
و بحكم سيطرتهم علي وكالة العمل الطوعي (مفوضية هاق) و وزارة الشؤون الانسانية تمكنوا من السيطرة علي وظائف العديد من المنظمات الدولية "غير الحكومية "كالصليب الاحمر، و سيف ذا جلدرن، و اطباء بلا حدود، و اوكسفام.. الخ"
و بحكم قبضتهم الأمنية و سيطرتهم علي مداخل البلاد و مخارجها نجحوا في اجبار المنظمة الأممية نفسها (الأمم المتحدة) علي اتاحة وظائف لكوادرهم، فعبر ممارسة نفوذهم علي بعض موظفي الوكالات الاممية (و التلويح بابعادهم او بعدم منحهم تأشيرات دخول) اصبح أولئك الموظفين رهن تصرفها و سهلوا لها مهمة زرع عناصرهم في كل الوكالات العاملة في السودان.. اما المناصب الأمم الدبلوماسية في نيويورك و جنيف و باريس .. فبحكم سيطرتهم علي وزارة الخارجية و بعثاتها فقد اضحت في ايديهم منذ وقت مبكر.
تمكين الأموال:
بسيطرتهم علي المال العام (الخزينة العامة) تلاعبوا بمشاريع الدولة و عطاءاتها لتحقيق كسب تنظيمي او كسب خاص، كما أصبح البنك المركزي و كل البنوك الحكومية و الخاصة تحت تصرفهم فتلاعبوا بارصدة المودعين.. خلقوا فئة "جوكية البنوك" الذين حصلوا علي تمويلات هائلة بلا ضمانات في وقت كانت فيه سلطة التصديق علي التمويل تحدث خارج البنوك بواسطة شيوخ كبار في التنظيم لهم سلطة أعلي من سلطة البنك المركزي نفسه، تلك العملية التي تسببت في وصول عدد كبير من البنوك الي حافة الافلاس .. و أوصلت البنوك في النهاية الي ازمة السيولة الشهيرة عام ٢٠١٨م.
و عند تبديل العملة الأول (١٩٩٠) جحدوا المودعين اموالهم و احتكروها و لم يسددوها الا بعد ان اصبحت قيمتها تافهة قياساً علي التضخم و انهيار العملة الوطنية (و التي تسببوا بها). و بذلك اخرجوا الكثيرين من دائرة المنافسة التجارية و الفعالية الاقتصادية..
ثم عبر سيطرتهم علي القرار الاقتصادي و السياسات المالية و النقدية (سياسات الصادر و الوارد و الاعفاءات الجمركية و الضريبية) تمكنوا من احكام السيطرة علي السوق و تسببوا في افقار و سجن العديد من رجال الأعمال و الرأسماليين من مصدرين و موردين الي اصحاب مصانع و الي كبار تجارة الماشية و كبار المزارعين.. بل استهدفوا حتي صغار التجار و المزارعين (مزارعي المشاريع المروية، كمشروع الجزيرة و غيره) لأن ظنهم هو ان فئة المزارعين في معظمها توالي الاحزاب التقليدية (الاتحادي و الأمة) و لإفقارهم قاموا بتجفيف المشاريع القومية و الاستراتيجية..
كان تعويلهم علي نفط الجنوب و جنوب الأواسط و بانتاج النفط زادت فرص اغناء عناصرهم علي حساب المال العام.. و بذهاب النفط مع الجنوب الذي انفصل و ظهور مورد الذهب استمرت سياسات تمكينهم مالياً عبر تصدير خام الذهب بعيداً عن القنوات الرسمية و لمصلحة تنظيم و فئات و افراد بعينهم!
و مقابل كل شخص جري تمكينه (حصل علي وظيفة او اراضي او اموال بغير وجه حق) هناك عدة اشخاص جري اضعافهم!
و هذه هي الآلية التي ضمنت للانقاذيين قدرة عالية علي التمدد و البقاء اذ ان اضعاف خصومها و اضعاف و افقار المجتمع بأسره مكن الاسلامويين من فرض تصوراتهم الفجة و ادارتهم المتخبطة.
باكتمال التمكين و احكامهم السيطرة علي الموارد المالية بالكامل ضمن الاسلامويين سيطرتهم علي المجتمع و تأكدوا من ضعف كل المعارضين لها مالياً و بالتالي عجزهم عن التأثير في المشهد السياسي..
لم تنجح الحكومة الانتقالية رغم قانون ازالة التمكين و رغم قرارات لجنة ازالة التمكين في انهاء تمكين الاسلامويين لأن الحكومة الانتقالية و قوي اعلان الحرية لم يفهموا ابعاد و عمق معضلة التمكين السرطاني.
اذ كما سبق فان تفكيك التمكين يقتضي استراتيجية متكاملة تتضمن وقف التمكين عبر :
اولاً: نشر الوعي بنظم مكافحة الفساد، و المحاسبة، و الشفافية، و بتدابير مكافحة غسيل الاموال و سائر وسائل الاغتناء غير المشروع و ثقافة الثراء السهل و السريع.
ثانياً: توضيح دقيق و علمي لابعاد فساد الثلاثين سنة بالارقام و الوثائق.
ثالثاً: تغيير قواعد اللعب المالي و الاقتصادي الذي اعتادها الاسلامويين و اجادوها و هي المضاربة في العملة و المضاربة في الاراضي و المضاربة في السلع.. و باتباع سياسات نقدية جديدة سيتم حرمانهم من هذه الميزة و اتباع سياسات جديدة فيما يتعلق بالاراضي و الاسكان سيتم تجفيف سوق المضاربة العقارية و بالاراضي.. و اعادة تنظيم النشاط التجاري و الذي اتسم في المرحلة الماضية بفوضي عظيمة، اذ ان حركة الاستيراد توسعت عبر ما عرف بتجارة الشنطة و هي تجارة علي ضخامتها بقيت ضمن نطاق السوق غير المنظم و الخارج عن رقابة الحكومة و اذرعها الجمركية و الضريبية و الرسوم المحلية ..الخ
كما ان الاسواق المحلية طرأت عليها تغييرات جمة، فالتجارة اصبحت النشاط الأول و اقتحمها عدد مهول من السكان؛ هذا بطبيعة الحال خلق ممارسات جديدة و انهي ممارسات قديمة مستقرة.
كما اندثر نشاط الوكلاء المعتمدين للمصنعين و الشركات الاجنبية مع ما يستلزم ذلك من اختفاء الضمانات التجارية..
و عملياً اصبح السودان خارج السوق التجاري العالمي او علي افضل الاحوال علي هامشه.
تغيير قواعد اللعب هي نقطة جوهرية، و نقطة التحول المفصلية التي ستلغي تميز الاسلامويين الذي تمتعوا به خلال الفترة الماضية..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
اغسطس ٢٠٢٢م
تعليقات
إرسال تعليق