يصعب فهم موقف الحزب الشيوعي الرافض لاتفاق السلام بين الحكومة الانتقالية و فصائل الجبهة الثورية، فالاسباب التي يسوقها الحزب "منها عدم شمول الاتفاق لتيار الحلو و عبدالواحد" لا تبرر رفض السلام خصوصاً أن رفض الانضمام عائد لأولئك القادة..
هذا الموقف يدفعنا الي فتح ملف علاقة الحزب بملف الحرب الأهلية السودانية و علاقته بأطراف الصراع.. في محاولة لفهم الوضع الماثل..
و يجدر بي ابتداءاً التأكيد انني لست في مقام الدفاع عن اتفاق جوبا تحديداً، انما الحديث عن مبدأ السلم الاهلي و السياسي، فكما يقول المهاتما غاندي: "ما من طريق الي السلام، السلام هو الطريق"، و في اعتقادي بعد الثورة يحتاج السودان الي ميثاق لنبذ العنف و عدم اللجوء للبندقية في العمل السياسي اكثر من حاجته لاتفاقيات سلام هي في جوهرها اتفاقيات محاصصة سلطة و نفوذ و ثروة و مغلفة بنظريات جوفاء و عبارات طنانة "علمانية، و تهميش/مركز، تعريب/افرقة، تطبيع/مقاومة، دعم سلع/تحرير سوق.." هدفها ايهام المواطن ان الجدل يدور حول مصلحته! لكن طالما ان خيار التفاوض بين المعارضة المسلحة و المكون العسكري و المعارضة غير المسلحة التي صعدت الي سدة القرار اثر تداعيات سقوط حكم البشير و حلفاءه اضحي هو خيار كل الأطراف فما من خيار الي السير الي آخر الشوط حتي لا نرتد الي مربع البندقية..
و الحزب "الشيوعي" كان من الذين تنكبوا طريق التفاوض و كان حاضراً للقاء اديس اببا الذي انعقد قبل إجازة الوثيقة الدستورية و الاتفاق السياسي الذي تسبب في اهدارنا لوقت الوطن الثمين..
ان احد الاجندة المهملة في السياسة السودانية هو علاقة الحزب الشيوعي بتطورات قضية جنوب السودان و علاقته بالحرب الاهلية التي اندلعت فيه في اواخر الخمسنيات و اوائل الستينيات من القرن الماضي.. و تجددت في اوائل الثمانينيات، مفضية الي انفصال الاقاليم الجنوبية عن الدولة السودانية و تأليفها لجمهورية جنوب السودان.. ثم تجددها في الجنوب المستقل، و في مناطق "الجنوب الجديد" المتمثل في ج كردفان و النيل الأزرق اضافة لاقليم دارفور غربي السودان.
في ارث الحزب الشيوعي وثيقة يبرزونها كلما تحدث الناس عن الجنوب "مسألة جنوب السودان" هي من ارث الستينيات لم يطال موقف الحزب أي تطوير منذ ذلك الحين!
في حين أنه و منذ اندلاع حركة ١٩٨٣م "حرب الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة جون قرنق" كان الحزب اقرب الي دعم هذه الحركة! إذ أن تلك الحركة كانت تتبني خطاب ماركسي صريح، تجربة الحركة الجنوبية استنسخت عن تجربة الحركة /والجيش الشعبي لتحرير أنغولا "و هي بالمقابل حركة ماركسية ايضاً و حتي أن الاختصارات متقاربة (APLM للانغولية و SPLM للجنوب-سودانية).
كانت القيادات السياسية "الجناح السياسي" للحركة كلها من قيادات الشيوعيين و اليساريين الجنوبيين، و حتي بعد انقلاب الجناح العسكري علي الجناح السياسي في الحركة و سيطرة العقيد قرنق علي كل مفاصلها فان العقيدة "الماركسية" بقيت حاضرة و طاغية، حتي انضمام ياسر عرمان و د. محمد يوسف و غيره من كوادر الشيوعيين بالشمال لم يكن مصادفة و لا قرار فردي بالمطلق انما يستند علي وحدة "القضية" و وحدة الايدولوجيا و "وحدة شعوب العالم المضطهدة"!!!
أستخدم العنف و السلاح في العمل العسكري جزء لا يتجزأ من مدرسة الاحزاب الشيوعية في العالم .. ما يسمي بالثورة البلشفية في روسيا 1917م أستخدم فيها السلاح و كذلك في كل اوروبا الشرقية و كوبا و كوريا الشمالية و الصين.. الخ، كما ان الكثير من حركات الكفاح المسلح تبنت الايدلوجيا الماركسية لأنها تشجع حمل السلاح .. و في السودان فان انقلاب مايو 1969م و انقلاب يوليو 1971م كلها تقدح في زعم الشيوعيين عدم أستخدم العنف، ما ظل يميز الحزب الشيوعي السوداني دوماً هو استخدام العنف و السلاح من وراء حجاب.. فعلاوة علي الحركة الشعبية لتحرير السودان هناك تجربة الحزب في صفوف التجمع الوطني الديمقراطي و التي كانت خلف ستار "الجبهة الديمقراطية" و الكل يعرفون صلة الجبهة بالحزب!! و لم يعصم الشيوعي من حادثة المرتزقة إلا التنكيل الذي نالهم من النميري فاعجزهم عن القيام بردة الفعل و رفض الاحزاب الاخري لقبول التحالف مع الشيوعيين بعد أحداث مايو السوداء "الجزيرة أبا/بيت الضيافة..الخ).
ما ميز قرنق عن الحلو هو ان قرنق فهم المشهد العالمي فنأي بحركته و نفسه عن شيوعيي الخرطوم و العالم اجمع، و تقرب الي العالم الديمقراطي الليبرالي في الوقت المناسب، و رفض ان يكون مطية لخلايا الشيوعيين المتخفية و النائمة..
بينما يظهر بجلاء ان عبد العزيز آدم الحلو وقع في قبضة الشيوعيين المحكمة.. اليوم الحزب يبدو واثقاً من سيطرته علي الحلو للدرجة التي تدفعهم الي الانسحاب من الحكومة الانتقالية و نفض اياديهم عن تحالف إعلان الحرية و التغيير، لأنهم يفضلون ان يعودوا الي الصدارة علي ظهر دبابات الحلو و أسنة سونكي بنادق جنوده!!
حتي باقي الفصائل التي نشطت في دارفور و الشرق فان الحزب و إن لم تكن لديه صلة تنظيمية قوية فانه نظر اليها بمبدأ (عدو عدوك صديقك!) و كان ينظر باستمرار لنشاطها و عملياتها و مواقفها بعين الرضا دوماً..
ان الأوان قد آن لأن يتحمل الشيوعيين مسؤوليتهم عما تسببت فيه تلك الحركات ابتداءا بفصل الجنوب الذي تأسست حركته في المستهل علي ضوء ادبياته و مبادئه و انتهاءاً بمسؤوليته عن الدمار و الموت و النزوح الذي سببته حركة "الكفاح المسلح" تلك في الجنوب و دارفور و جنوب كردفان و النيل الأزرق، فأن تعتبر نفسك لاعب سياسي يستتبع مسؤولية سياسية و وطنية و اخلاقية.
-------------------------------------
- ديسمبر ٢٠٢٠م
تعليقات
إرسال تعليق