تجمع المهنيين برز للوجود كتشكيل موازي للنقابات و لاتحاد العمال الموالي لسلطة نظام الانقاذ البائد، و كان في اول عهده يحظي بوضعية شبه معترف بها من السلطات القائمة حينها "حيث نظم سمنار حول الاجور مع البرلمان الانقاذي، كما انه كان يزمع تنظيم تظاهرة احتجاجية أمام البرلمان يوم 25 ديسمبر بذات الخصوص- رفع الحد الادني للاجور" ..
لكن مع تصاعد الاحتجاجات اعتباراً من 13 ديسمبر 218م في الدمازين بولاية النيل الازرق ثم انتقالها في الايام التي تلت في عطبرة و القضارف ثم الخرطوم و بقية عواصم و مدن الولايات، تزايد ضغط الجماهير علي تجمع المهنيين ما أضطره للتراجع عن تنظيم الوقفة الاحتجاجية أمام البرلمان و بدلاً عنها قرر الدعوة لتظاهرة احتجاجاً علي القمع المفرط للتظاهرات و قتل المتظاهرين في عطبرة و بربر و القضارف و غيرهن من المدن، و عوضاً عن زيادة الحد الادني للاجور قرر المطالبة بتنحي رئيس الجمهورية و الحكومة.
من تاريخه اصبح التجمع قائداً للحراك و وجدت دعواته استجابة جماهيرية واسعة برغم طعن الحكومة في شرعيته و وصفها له بأنه كيان غامض و وهمي، ثم التفت حوله احزاب سياسية و ائتلافات و تجمعات مدنية "قوي إعلان الحرية و التغيير - قحت" لتشاركه في تنظيم و قيادة الحراك الذي اسفر في النهاية عن سقوط نظام البشير.
و مع تزايد القبول و الزخم حول التجمع ارتأت بعض قياداته، و كانت محقة، ان عليهم التأهب لدور اكبر حال سقوط النظام، أو حتي بقاءه، فدور التجمع لم يعد بمقدور احد ان ينكره أو يتجاهله، فاعلنت علي موقع التجمع الالكتروني و علي صفحاته علي مواقع التواصل عن دعوة لتقديم مقترحات لمستقبل الدولة و مستقبل التجمع نفسه..
لكن ربما تجاهل "المهنيون" تلك البادرة مع تطور الاحداث و تسارعها حتي سقوط النظام، و الانخراط في جو المكايدات السياسية و السباق الحزبي المحموم و المذموم، أو ربما لم يستطع التجمع المهني التعامل مع سيل المقترحات، جيدها و رديئها، و التي اتوقع ان تكون انهالت علي موقعهم الالكتروني بالمئات أو الالاف..
وجد المهنيون انفسهم منخرطون في ائتلاف سياسي "قحت" تحول سريعاً من دينمو الحراك الي دينمو الدولة، و مع حالة عدم الاستعداد اضافة لعدم الخبرة و تعقيدات السياسة السودانية، و مؤسسات دولة مخربة كلياً، و اقتصاد متداعي، و نزاعات اهلية و مجتمعية.. الخ
في هذا الظروف و بالتزامن مع فشل التجمع في تحديد هويته "نقابة بدور وطني"؟ ام كيان سياسي يحترف المنافسة السياسية علي السلطة؟ يجد التجمع نفسه في متاهة سياسية و وطنية!
أهمل التجمع خطوة تطوير نفسه ليصبح نقابة عامة تمثل كل المهنيين تمثيلاً حقيقياً و لاغراض نقابية صرفة و حقيقية، و ليس له احتكاك بالسياسة إلا عندما تلامس كيان الوطن فتصبح امراً وجودياً "نكون أو لا نكون" مثلما هو حادث حالياً و منذ 30يونيو 89 ...
مع الإنتباه دوماً الي النقطة التي ينتهي عندها العمل النقابي و يبدأ العمل الحزبي أو السياسي، و النقطة التي ينتهي عندها العمل الحزبي و يبدأ العمل النقابي ..
فالتجمع اليوم يضم نقابي هو في نفس الوقت رئيس حزب! و في نفس الوقت نفسه قيادي بالخدمة المدنية! و ليست في ادارة خدمية حكومية عادية بل في جهاز يفترض فيه أصلاً انه "مستقل" -البنك المركزي- لكونه جهاز حساس و حاكم و يجب ان يختص بوضع منفصل و لا يختلط موظفيه مع موظفي اي قطاع آخر لا تنظيمياً و لا نقابياً، بما فيهم موظفي قطاع المصارف حتي تبقي قراراتهم الادارية بعيدة عن أي تأثر، و هذه كلها مفارقات و امور متعارضة، فالسياسي المحترف لا يجوز له ممارسة عمل نقابي، و النقابي المحترف يجب ان يتم تفريغه من مكان عمله حتي يقوم بالمهام النقابية علي اكمل وجه، و أما الجمع بين القيادة النقابية و القيادة الوظيفية بالخدمة الحكومية فهي تعكس حالة تعارض مصالح في انقي تمظهراتها!
يمثل التصعيد الاخير لتجمع المهنيين "برنامج استكمال هياكل السلطة" محاولة للخروج من المتاهة التي دخل فيها التجمع و الافاقة من الغيبوبة التي ادخله فيها حلفاءه.. لكن هذا التصعيد ان تم دون تفاهم مع اؤلئك الحلفاء و مع الشركاء المتوقعين "الحركات" غالباً ما يكون كذلك؛ فإنه سيمثل بداية خلاف عميق و فارقة تتمحور حولها الصراعات في المرحلة المقبلة..
١٣ فبراير ٢٠٢٠م
تعليقات
إرسال تعليق