التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عودة لبرنامج الحكومة "الانتقالي"

عند تشكيل الحكومة الانتقالية الثانية (أواخر فبراير من هذا العام ٢٠٢١م) اعلنت تلك الحكومة عن برنامجها بعد اجتماع مغلق و مطول استمر ثلاثة ايام بلياليهن!

برنامج الحكومة الانتقالية الذي أثمر عنه الاجتماع مثل نقلة مهمة متأخرة بعد عام قضته الحكومة الأولي بلا برنامج و بلا خطة!

لكن هذه الخطة أو البرنامج "و التي لم تجد حظاً من القراءة مثلما مع الأسف لم تجد حظاً من الاعداد.." 

اسوء ما في البرنامج الحكومي الانتقالي انه جاء بلا روح و بلا زخم شعبي، بالمختصر هو عبارة عن تلفيق و "تلتيق" و تجميع لمقترحات الوزراء كل عن وزارته، و لا يمكن ان يسفر عن مثل هذا العمل برنامج متجانس و "حيوي".

امور كثيرة حتمت ان يكون البرنامج بهذا الشكل من الضعف و الابتسار و التفكك.. من ذلك غياب الهيئة التشريعية التي يعرض عليها البرنامج لتجيزه او "تسقطه"، و تقاصر همة هياكل الحاضنة عن المساعدة في انجاز برنامج الثوري "فالقتال علي المناصب و الحصص لم يبقي لها همة او قدرة" و الصراع لتمرير الاجندة و المواقف انهك قواها.. فضلاً عن انه من الاساس مشكوك في ثوريتها ..

و اجسام كالتجمع المهني و التجمع المدني ثبت بالدليل انها تحتاج كذلك الي ثورة في داخلها تعيدها لجادة التغيير!

شخصياً كنت اتوقع او اتمني برنامج اكثر حيوية و باجندة اكثر وضوحاً، برنامج يتبناه المواطن و يشرع في تحقيقه قبل ان تتبناه السلطة.. برنامج اكثر واقعية و مادية "يمكن الامساك به" و يمكن بالتالي تصويب السلطة عندما تحيد عنه و يمكن محاسبتها علي اساسه حال فشلها فيه..

توقعت برنامج هدفه "تحرير طاقات المواطن" بعد عقود من القيود التي كبلت ارادته "السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية" و ليست غايته مزيد من تحرير السلع و العملة و الاسواق مع الابقاء علي المواطن في قيوده ذاتها!

جاء (البرنامج) في خمسة محاور هي..

- الاقتصادي و الاجتماعي

- السلام

- الأمن

- السياسة الخارجية

- الانتقال الديمقراطي أي (بناء مؤسسات الحكم)!

ثمة ملاحظات عدة يتعلق بعضها بأمور موضوعية تتعلق بجوهر البرنامج الانتقالي و أخري شكلية لازمة للنجاح في تنفيذه، و دعوني ابدأ بتلك الشكلية..

* ورد في متن البرنامج انه سيحال الي الوزارات لتطلع بدورها بكتابة خطة و برنامج تفصيلي بجدول زمني .. و حتي تاريخه لم نطالع أية خطة لأية وزارة، و لا أعلم ما ان كانت بعض الوزارات او كلها قد وضعت خططها و لم تهتم بنشرها ليطلع عليها الرأي العام، او انها لم تنتهي بعد من ذلك رغم انقضاء ثلاثة اشهر!

عليه فيبقي ما نشر مجرد خطوط عامة توجيهية "guidelines" لا ترقي لمرتبة (برنامج).

اما من حيث الجوهر و المضمون؛ فان البرنامج يشتمل علي خلل بين و فادح يتمثل في:

* فيما يخص محور الاقتصاد و السياسة الاجتماعية فان ما ورد عموميات لا تصلح برنامج لجمعية تعاونية ناهيك عن حكومة (و حكومة انتقالية بعد سنوات من التخبط و التدمير و الفساد!)، اذ لم ترد أية اشارة للتضخم و انهيار العملة الوطنية و السياسات التي ستتبع للجم هذا الجموح!

مثلما لم يتضمن رؤية عامة تنموية تعالج اثار الشهور الاخيرة ناهيك عن اثار اكثر من نصف قرن من اخطاء الادارة و السياسات!

كما ان اول خطوة اقدمت عليها الحكومة بعد اجازة (البرنامج) كانت تحرير سعر الجنيه و نجم عن ذلك زيادات مستمرة في سعر العملة الصعبة و هذه الخطوة لم نجدها مكتوبة في (البرنامج)!

كنا نتوقع سياسة تهدف لتحرير طاقات المواطن بعد عقود من القيود الاقتصادية و اذا بنا نفاجأ باستمرار سياسة (تحرير) السلع و الاسواق و العملات الحرة مع استمرار سياسة تقييد الانسان!

توقعنا او تمنينا سياسة تعيد تأهيل النظام المصرفي ليقوم بواجبه بسياسات التمويل و تستعيد نسبة مقدرة من الاموال بالعملة الوطنية و الاجنبية التي تدور الأن خارج النظام المصرفي بنسبة تزيد علي ال ٩٠% !!

سياسة تعمل علي تنشيط دور القطاع الخاص (و شركات المساهمة العامة) لأن ما من نهضة تنموية يمكن ان تنهض بها الحكومة بمفردها و ان دور المجتمع عبر القطاع الخاص و ذراعه القوية (شركات المساهمة العامة) و التعاونيات هو دور أساسي، فمهمة الدولة -الحكومة هي انشاء المشاريع ذات الطبيعة النهائية التي لا تستدعي تسيير يومي (الطرق و السكك الحديدية و تخطيط الاراضي و تخصيصها) اما العمل الانتاجي و التشغيلي اليومي فهو نشاط المواطن عبر الياته التجارية و الاقتصادية، كتسيير القطارات "شركات النقل الحديدي" و النقل البري و البحري و الجوي و سائر الخدمات الأخري و العمليات الانتاجية يلزم ان تترك للمجتمع بنفسه و يقتصر دور الحكومة علي التنظيم و ليس التشغيل .

* و فيما يلي محور بناء مؤسسات الحكم لا يتضح ما هي المبادئ التي يراد ارساءها من البنود العديدة الواردة في البرنامج الحكومة؟! 

في هذا المحور وردت الاشارة لمكافحة الفساد في فقرتين (4 و 6) و ان كان هذا يعكس انشغال الحكومة بمشكلة الفساد و حملها هذا الهم الا انه من غير الواضح ما هي الوسائل او الاساليب التي ستتيعها و لا الي اي مد ستكون فاعلة في هذا الصدد؟!

و ما يلي تكوين المجالس المهنية و النقابات لا يبين ما الجديد الذي سيضمن مجالس فاعلة تمثل المجتمع و "المهنية" و لا تمثل السلطة و لا كيف سنضمن قيام نقابات قوية يستحيل تدجينها لصالح حزب او حكومة!

* اما محور السلام، اضافة ل(سنفعل و سنفعل..) تضمن بند عن اعادة و توطين النازحين و اللاجئين "طوعياً"، و مع ان هذا هدف كبير و يحتاج لرؤية و (بصيرة) ..

الا ان الوضع في السودان يحتاج الي ما هو ابعد من توطين النازحين، فالنزوح و الهجرات اصبحت ازمة مزمنة و مقيمة و تحتاج لبرنامج وطني اكبر (العودة للديار) يشمل كل الذين هاجروا لمختلف الاسباب "سياسية او امنية او اقتصادية او بيئية..الخ".

اعادة احياء المدن الاقليمية و الارياف و تخطيط مدن سكنية و صناعية و بث الروح فيها مشروع مهم جداً و دونه لن يكون للتغيير اي معني..

كما لا نجد أي اشارة لتوطين الرعاة (معظم النزاعات و الحروب نتجت عن احتكاكات بين الرعاة و المزارعين) و توطين الرعاة لن يسهم في احلال السلام فقط بل سيتجاوز ذلك الي تحقيق نهضة اقتصادية (فالسودان يملك احد اكبر الثروات الحيوانية و مع ذلك فان العائد منها لا يتناسب مع حجمها بسبب الاساليب التقليدية في الرعي و التربية و الانتاج.. و لو تم تحديث هذا القطاع فان عوائده وحدها يمكن ان تحدث فارق كبير، صناعة الصوف بمفردها يمكن ان تدر عائد علي ملاك القطعان و علي الاقتصاد).

* في محور الأمن و الذي تدور فقراته حول اعادة تأهيل اجهزة الدفاع و الشرطة و المخابرات و الأمن .. و فيما ان قضايا الأمن و السلام قضايا متداخلة فانه من الصعب جعل كل محور مستقل عن الآخر! فكلها قضايا شائكة و ذات تقاطعات و كلها كذلك وثيقة الصلة بملف العدالة و الذي لم يحظي بمحور مستقل انما ابتسرت الاشارة له بفقرة وحيدة في محور بناء مؤسسات الحكم الانتقالي، و تتحدث عن العدالة الانتقالية فقط لا غير!

و الأمن في مرحلة الانتقال الديمقراطي و بناء دولة حكم القانون يعني فيما يعني ان يكون من المتعذر علي كائن من كان ان يجند فصيل او مليشيا لصالح جهة او قبيلة او حزب "و لو كان حزب حاكم"! كما يكون مستحيل كذلك ان يجند كائن من كان ان فصيل مسلح يرفع سلاحه بوجه الدولة او المجتمع! هذا من مفاهيم الأمن حسب ما نفهم و لا يبين ما اذا كان هذا هو نفس فهم (البرنامج)!

* كذلك اشتمل محور العلاقات الخارجية علي جملة من "الأمنيات" العريضة (ختمت ببند يتحدث عن تصميم برنامج لتقديم سودان ما بعد ثورة ديسمبر بوجوه الشباب بما يعكس تنوع السودان) و التي لا اخال ان تتحقق من تلقاء ذاتها!

و مع العلم ان العالم اليوم علي أهبة الاستعداد لاستقبال عودة السودان و احتضانه (في كلمة امام مؤتمر باريس بخصوص السودان قال الرئيس الفرنسي ان بلاده فخورة بأن تكون البوابة التي يعود منها السودان للأسرة الدولية.. عليه فانه ليس مطلوب من محور العلاقات الخارجية و لا من مؤسسات الدبلوماسية السودانية ان تأتي بالخوارق من أجل اعادة ادماج السودان في محيطه الأقليمي و الدولي انما واجبها هو توظيف هذا الترحيب و الحفاوة بعودة السودان و تحويلها الي ضمانات سياسية و اقتصادية تكفل نجاح الانتقال الديمقراطي و حدوث تغيير حقيقي و جذري..

و مع الأسف فان التصورات الساذجة و الوهمية التي سيطرت علي عقل احزاب المعارضة ايام حكم البشير و التي توهمت ان العزلة الدولية كفيلة باسقاط ذلك النظام هي نفسها لا تزال سائدة عندها بعد ان تحولت من احزاب معارضة الي احزاب "حاضنة" و حاكمة اذ تظن ان الموقف الدولي وحده كفيل بانجاز تغيير و بمعزل عن تفاعلات الداخل!!

علاوة علي كل ما تقدم فان ما يمكن اضافته من نقد للبرنامج الانتقالي اهماله لمساهمة و ادوار حكومات الولايات و المحليات في وضع و تنفيذ البرنامج، فمن الواضح ان مجلس الوزراء حينما كتب برنامجه نسي تماماً انه ليس الوصي علي هذه البلاد وحده و ان هناك شركاء كبار هي حكومات الولايات و شركاء مهمين هم الحكومات "المجالس" المحلية و المعتمديات و انه لا يمكن تنفيذ ابسط عمل دون تكامل ادوار كل الشركاء.

و الحديث عن اكمال مؤسسات و هياكل الحكم لا يعدو كونه للاستهلاك، ازمة "والي كسلا" و وزير التربية و التعليم الاتحادي تشي بذلك اما "المجلس التشريعي - البرلمان" فالحديث عنه اضحي مثل الحديث عن الخل الوفي!

٥ يونيو ٢٠٢١م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بروفايل "البروف-الشيخ"

   دائما ما كنت اتساءل عن التخصص الذي يحمله السيد ابراهيم احمد عمر وزير التعليم العالي في اول حكومة انقاذية 1989م وعراب ما سمي تجاوزا "ثورة التعليم العالي" والتي بموجبها تم ت...

أوامر المهزوم!

  اوامر الطوارئ الاربع التي اصدرها البشير اليوم 25فبراير و التي تأتي استنادا علي اعلان الجمعة الماضية ( اعلان الطوارئ وحل الحكومة و تكليف ضباط بشغل مناصب حكام الولايات ) لها دلالة اساسية هي ان الحكومة تحاذر السقوط و باتت اخيرا تستشعر تهاوي سلطتها! جاء اعلان الطوارئ و حل الحكومة كتداعي لحركة التظاهرات والاضرابات التي عمت مدن البلاد علي امل ان يؤدي الي هدوء الشارع .. اما و قد مرت اكثر من 72 ساعة علي الاعلان دون اثر فتأتي الاوامر الاربعة (منع التظاهر، و تقييد تجارة السلع الاستراتيجية، و حظر تجارة النقد الاجنبي، و تقييد وسائل النقل والاتصالات) كمحاولة ثانية يائسة لايهام الجموع الشعبية بأن السلطة قابضة بقوة و ان لديها خيارات امنية و قانونية و ادارية متعددة! لا اجد لهذا الاعلان نظير في تاريخ السودان، اذ لا يشبه قرارات الانظمة الوطنية ( ديمقراطية كانت او انقلابية ) .. فالطوارئ قرار يلجأ اليه الحاكم في حالة الحروب او الكوارث الطبيعية او الازمات الوطنية و ليس اداة لمجابهة ازمات سياسية، فازمات السياسة لها طرق حل معروفة منها التنحي او الانتخابات المبكرة او تكوين ائتلافات جديدة وليس من بين...

البشير لم يسقط وحده

  بعد ثورة و تظاهرات استمرت لأربعة اشهر و عمت كل مدن و قري السودان اجبر الرئيس البشير علي التنحي و سقط بحسب مفردات الثورة السودانية و ثوارها..   اليوم حلفاء البشير من الانته...