طالعت قبل بضع سنوات حواراً علي صفحات احدي صحف الخرطوم أُجري مع احد اثري اثرياء البلد ممن اغتنوا بالاتجار في العملات الصعبة؛ وهو رجل شبه أُمي اذ لم يتلقي اية تعليم نظامي؛ قال في الحوار ان اكثر شئ ادهشه في امريكيا التي عاد منها لتوه 'في ذلك الوقت طبعا' ما ادهشه فيها يقول الرجل ان الدولار فيها يساوي دولاراً.
لم يستوعب الرجل وبدا له في الأمر مفارقة خصوصا وهو الذي عاش واغتني علي فرق سعر العملات وصعود الدولار وهبوطه وقوته و ضعفه؛ لم يستوعب ان يكون للعملة قيمة ثابتة و مستقرة ! اليوم لا اعتقد ان الرجل ينفرد وحده بدهشته، بل يشاطره فيها بعض او كثير ممن درسوا الاقتصاد و تقلبوا في مناصب ادارته وادارة البنوك التجارية والمركزي!
اذ ان ما يستطيع الدولار فعله في امريكيا 'موطنه' لا يستطيع فعله في السودان ! فمثلا تستطيع 10 الف دولار ان تؤمن سكن 'شقة تمليك' مؤثثة في موقع جيد و بكل الاحتياجات 'كهرباء، مياه، اتصالات..' و معها وسيلة تنقل 'سيارة' بحالة جيدة جدا.. في حين ان ذات المبلغ لن يؤمن لك قطعة ارض خلاء في اطراف الخرطوم او منزل متواضع بقلب احدي عواصم الاقاليم او مدنها !
كما ان الف دولار شهريا -ما يعادل ويزيد قليلا عن خمسين الف جنيه سوداني حسب سعر الدولار عند كتابة هذا المقال- تكفي بالكاد لتقيم أود اسرة متوسطة ( حسب تقييم حديث اجرته مجموعة تحالف المهنيين السودانيين ) في حين ان هذا المبلغ لا يتقاضاه كراتب شهري اي موظف حكومي في السودان؛ اذ تتراوح الرواتب في المتوسط بين 2 الف الي 3 الف جنيه في الشهر أي ما يعادل 40 الي 50 دولار! بينما يكفي ذات المبلغ ( ألف دولار ) لأكثر من مؤنة شهر في الولايات المتحدة مع العلم ان اقل العمال راتباً هناك يستطيع كسب ضعفي هذا المبلغ في الشهر!
ان الغلاء الحادث في السودان ليس ناتج عن ارتفاع مستوي المعيشة بسبب ترقي اسلوب الحياة كما هو حادث في سنغافورة مثلا! انما غلاء مصحوب بتدني في كل شئ! تدني في مستوي وجودة الخدمات من العلاج الي التعليم الي الاتصالات والنقل الي المعاملات الادارية الحكومية.. و تدني في جودة ظروف السكن و خدمات التأمين والسلامة؛ و تدني في جودة السلع من الخبز الي الدواء!
فهذا الغلاء ناتج اساسا عن انسداد افق النشاط الاقتصادي، فبسبب هيمنة الدولة علي الاسواق و هيمنة جماعة سياسية علي الدولة؛ اضحت اية ممارسة اقتصادية محفوفة بمخاطر خسارة كبيرة جراء اجراء حكومي تافه قد يصدر بين لحظة و اخري، لذا لجاء الناس الي حماية انفسهم اولاً باللجوء الي اساليب الادخار الآمنة كالاراضي والذهب و العملات الصعبة..الخ
كما اضطروا لاحقا للجوء للمدن الكبيرة والتجمعات المدنية الضخمة للاحتماء ببعضهم البعض من غائلة الاستفراد و المصادرات بحجج واهية في ظل ظروف حروب اهلية و منازعات لا تنتهي، والاستفادة من روح التكاتف والتكافل الاجتماعي السودانية التقليدية، حيث يندر ان يجوع شخص وان كان معدماً طالما ان هناك طعام، فالسودانييون رغم كل الازمات لا يزالون يحتفظون بعادة بزل الطعام، بل وحتي بعض التجار لا يزالون يحرمون الاتجار فيه عند الازمات.
هذا التكدس في العاصمة وبعض المدن للاشخاص وثرواتهم اعتقد بعض "المتفاكرون" انه سلوك مدروس من السلطة و نوع من المركزة و التهميش! و تلك قراءة خاطئة تماما اذ ان الحادث هو انها كانت ردة فعل وسلوك دفاعي غريزي قامت به الجماهير لتأمين حياتها و ارواحها.
غلاء السودان هو غلاء فشل اقتصادي مريع يتمثل في ضعف الانتاج لضعف البني الانتاجية و ضعف الجهاز الاقتصادي والاداري للدولة و القطاع الخاص و ضعف العقل الاقتصادي نفسه!
لسنوات خلت ظل الناس هنا يتبعون انماط سلوك لا اقتصادية تراكمت اخطاءها حتي اضحت بحجم جبل يتعذر معها فهم ما يحدث و اسبابه او رؤية حقيقة الاشياء! وعلاج أمراض الاقتصاد السوداني لن تكون بقرار اداري واحد او عشرة قرارات بل برؤية وسياسة اقتصادية تواكبها سياسات ادارية وقانونية ثم عمل دؤوب وجهد لا يكل حتي تقف البلاد علي قدمين وساقين ماليا واقتصاديا من جديد.
لم يستوعب الرجل وبدا له في الأمر مفارقة خصوصا وهو الذي عاش واغتني علي فرق سعر العملات وصعود الدولار وهبوطه وقوته و ضعفه؛ لم يستوعب ان يكون للعملة قيمة ثابتة و مستقرة ! اليوم لا اعتقد ان الرجل ينفرد وحده بدهشته، بل يشاطره فيها بعض او كثير ممن درسوا الاقتصاد و تقلبوا في مناصب ادارته وادارة البنوك التجارية والمركزي!
اذ ان ما يستطيع الدولار فعله في امريكيا 'موطنه' لا يستطيع فعله في السودان ! فمثلا تستطيع 10 الف دولار ان تؤمن سكن 'شقة تمليك' مؤثثة في موقع جيد و بكل الاحتياجات 'كهرباء، مياه، اتصالات..' و معها وسيلة تنقل 'سيارة' بحالة جيدة جدا.. في حين ان ذات المبلغ لن يؤمن لك قطعة ارض خلاء في اطراف الخرطوم او منزل متواضع بقلب احدي عواصم الاقاليم او مدنها !
كما ان الف دولار شهريا -ما يعادل ويزيد قليلا عن خمسين الف جنيه سوداني حسب سعر الدولار عند كتابة هذا المقال- تكفي بالكاد لتقيم أود اسرة متوسطة ( حسب تقييم حديث اجرته مجموعة تحالف المهنيين السودانيين ) في حين ان هذا المبلغ لا يتقاضاه كراتب شهري اي موظف حكومي في السودان؛ اذ تتراوح الرواتب في المتوسط بين 2 الف الي 3 الف جنيه في الشهر أي ما يعادل 40 الي 50 دولار! بينما يكفي ذات المبلغ ( ألف دولار ) لأكثر من مؤنة شهر في الولايات المتحدة مع العلم ان اقل العمال راتباً هناك يستطيع كسب ضعفي هذا المبلغ في الشهر!
ان الغلاء الحادث في السودان ليس ناتج عن ارتفاع مستوي المعيشة بسبب ترقي اسلوب الحياة كما هو حادث في سنغافورة مثلا! انما غلاء مصحوب بتدني في كل شئ! تدني في مستوي وجودة الخدمات من العلاج الي التعليم الي الاتصالات والنقل الي المعاملات الادارية الحكومية.. و تدني في جودة ظروف السكن و خدمات التأمين والسلامة؛ و تدني في جودة السلع من الخبز الي الدواء!
فهذا الغلاء ناتج اساسا عن انسداد افق النشاط الاقتصادي، فبسبب هيمنة الدولة علي الاسواق و هيمنة جماعة سياسية علي الدولة؛ اضحت اية ممارسة اقتصادية محفوفة بمخاطر خسارة كبيرة جراء اجراء حكومي تافه قد يصدر بين لحظة و اخري، لذا لجاء الناس الي حماية انفسهم اولاً باللجوء الي اساليب الادخار الآمنة كالاراضي والذهب و العملات الصعبة..الخ
كما اضطروا لاحقا للجوء للمدن الكبيرة والتجمعات المدنية الضخمة للاحتماء ببعضهم البعض من غائلة الاستفراد و المصادرات بحجج واهية في ظل ظروف حروب اهلية و منازعات لا تنتهي، والاستفادة من روح التكاتف والتكافل الاجتماعي السودانية التقليدية، حيث يندر ان يجوع شخص وان كان معدماً طالما ان هناك طعام، فالسودانييون رغم كل الازمات لا يزالون يحتفظون بعادة بزل الطعام، بل وحتي بعض التجار لا يزالون يحرمون الاتجار فيه عند الازمات.
هذا التكدس في العاصمة وبعض المدن للاشخاص وثرواتهم اعتقد بعض "المتفاكرون" انه سلوك مدروس من السلطة و نوع من المركزة و التهميش! و تلك قراءة خاطئة تماما اذ ان الحادث هو انها كانت ردة فعل وسلوك دفاعي غريزي قامت به الجماهير لتأمين حياتها و ارواحها.
غلاء السودان هو غلاء فشل اقتصادي مريع يتمثل في ضعف الانتاج لضعف البني الانتاجية و ضعف الجهاز الاقتصادي والاداري للدولة و القطاع الخاص و ضعف العقل الاقتصادي نفسه!
لسنوات خلت ظل الناس هنا يتبعون انماط سلوك لا اقتصادية تراكمت اخطاءها حتي اضحت بحجم جبل يتعذر معها فهم ما يحدث و اسبابه او رؤية حقيقة الاشياء! وعلاج أمراض الاقتصاد السوداني لن تكون بقرار اداري واحد او عشرة قرارات بل برؤية وسياسة اقتصادية تواكبها سياسات ادارية وقانونية ثم عمل دؤوب وجهد لا يكل حتي تقف البلاد علي قدمين وساقين ماليا واقتصاديا من جديد.
تعليقات
إرسال تعليق