التخطي إلى المحتوى الرئيسي

النخب السودانية.. مسلمات باطلة؛ و رهانات خاسرة

   واحدة من ابرز واهم ما تتصف به النخبة السياسية و الفكرية السودانية من صفات هو ميلها الي تبني الافكار بصيغة المسلمات والشروع في الدفاع عن تلك الافكار الي آخر الشوط في ولاء عجيب وإيمان ينافس "ايمان عجائز نيسابور" - ومعروف ان ايمان وقناعات العجائز لا يستطيع كائن من أو ما كان ان يحركها او يزحزها ناهيك عن ان يغيرها او ينسفها، لكن يقال ان عجائز بلدة نيسابور الخراسانية (ايران حاليا) فاقوا عجائز غيرها من المدن في تعنتهم وتشبثهم بايمانهم، حتي اضحي البعض يقول في دعائه ؛ اللهم نسألك ايمانا كايمان عجائز نيسابور- ويحق لنا ان ندعوا بقناعات كقناعات النخب السودانية وخصوصا عواجيز الاحزاب، وكأن نخبنا تري ان من العيب ان يغير المرء من قناعاته ويبدل أو يطور مواقفه، مهما كانت الحال، مع العلم ان الرجوع للحق فضيلة كما في القول المأثور.
    من تلك المسلمات التي تري بعض النخب ان الباطل لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها قول بعضهم مثلا ان النظام البرلماني لا يصلح للسودان، وان الرئاسي هو الأولي بالإتباع فيه بحجة ان نمط الديمقراطية البرلمانية يفتح الباب واسعا للإختلاف لكونه يتطلب قدر أوسع من الاجماع لا يستطيع السودانيين بطبيعتهم (الخلافية!!) الوصول اليه فيما ان الرئاسي يضع السلطات او معظمها في يد رجل واحد... بينما يشتط جناح آخر من النخب بالقول ان الديمقراطية بمجملها لا تصلح للسودانيين ويجب ان يؤخذوا بالحزم والشدة (الديكتاتورية، والعسكرية) وليس باللين (السياسي)؛
   وهناك ايضا بين النخب من يري ان نمط التطور الرأسمالي لا يصلح للسودان ويجب ان تأخذ الدولة بيدها كل الموارد الاقتصادية والمالية وتقوم بالتخطيط لكل شئ وتشرع في التأميم والمصادرة ..الخ، فيما يري آخرون ان العكس هو الصحيح وان التطور الاشتراكي او الشيوعي لا يصلح لنا بحكم تناقضه مع قيمنا الدينية ، عليه يكون طريق السوق و الخصخصة هو الاجدر بالسير فيه؛
  وثمة من يقول لك ان هذه البلاد لا يمكن إدارتها الا "لا مركزياً" أي فيدراليا، فيما يجادل آخرون من النخب "هداها الله" بأن النظام الفيدرالي هو سبب تفشي النزعات الجهوية/والمناطقية / والقبيلة، لذا يجب أخذ الناس بنظام الحكم القابض المركزي،
  وهناك من يراهن بأن السلاح هو الخيار الوحيد لإسقاط النظام بينما من يؤكد بأن النضال المدني هو الطريق الذي لا ثاني له لتغيير السلطة...
  ولأن كل تلك المسلمات باطلة في منطلقاتها كان من المنطقي ان تكون نتائجها "رهاناتها" خاسرة خسرانا مبين، ومن المنطقي كذلك ان تبقي النخب السودانية أسيرة تلك المسلمات فيما تراوح الازمة مكانها وتنحدر الحالة في كل يوم من سئ الي أسواء،
  كل تلك المسلمات يمكن ضحدها بسهولة ويسر يتكشف معها مدي ضلالنا،،،
 فمشكلتنا ليست في النمط البرلماني أو الرئاسي ، فكل تلك الطرق هي في نهاية المطاف وبدايته طرق (ديمقراطية) وطالما ان كل قواعد اللعبة الديمقراطية وادبياتها ومبادئها مرعية فيبقي التفاضل بين الديمقراطية الرئاسية والبرلمانية مجرد شكليات (أو كما يقول اهلنا الصوفية؛ لكل شيخ طريقته) فكلها بالفعل سبل تقودنا في النهاية الي غاية واحدة هي الديمقراطية، ولا يمكن تبني النظام الرئاسي في بلد يعاني من انتهاك حقوق الانسان وضياع الحريات الصحفية واهدار مبادئ تكافوء الفرص...الخ ونزعم في النهاية ان هذه ديمقراطية، كما ان النظام الرئاسي لا يعني ان يد الرئيس مطلقة كما يفهم البعض فالسلطة التشريعية (كونغرس* شيوخ+نواب) لديهم سلطتهم وفي امكانهم عرقلة كل قوانين ومشاريع الرئيس...
أما قول بعضهم بان (الفيدرالية أو الحكم المركزي ) يمثلان حلا للمعضلة الادارية والسياسية ، فهذا قول مردود ، لا يوجد نظام علي اي حال يمنح حل سحري أو تلقائي .. فالسودان كان محكوما بسلطة مركزية حتي وقت قريب وكانت الامور علي ما يرام ، فالفيدرالية بمجرد التبني لا تمنح اي ميزة .. والمهم هو سيادة مبادئ الادارة الحسنة والعدالة في اقتسام الموارد و وصول الخدمات للمواطن وليس اقتسام الموارد بطريقة نيفاشا والتي قسمت البلد بين اللوردات الكبار الذين تقاسموا الثورة وافسدوا فيها ..
وعلي هذا النحو يمكن القول ايضا في مسالة اي الطريقين سيحقق التغيير المنشود؛ فليس العمل المدني (كأسم) أي بمجرد رفع شعارها، و لا الثورة المسلحة بمجرد تبنيها يمكن ان تحقق التغيير ما يحقق التغيير هو التوصل الي صيغة خطاب التغيير ذلك الخطاب المختلف الذي يستوعب الجميع ويتعاطي بايجابية مع كل المشاكل ويبرز الحسنات والمعطيات الايجابية ، ذلك الخطاب الذي يثابر من يتبناه علي توصيله للشارع بكل الهمة والعطاء .. علينا ان نعلم ان التغيير لن يحققه سلاح بل اليد الواعية التي تحمل ذلك السلاح، اي السلاح المرفوع بفهم ولأجل غاية وليس السلاح الذي يخدم الاطماع والمصالح؛ فحمل السلاح لا يعني ان العمل السياسي اضحي ثانويا، كذلك فان العمل السلمي لن يحقق نصرا طالما نحن نركن للخمول بل يجب ان يصحب ذلك جهد دؤوب وتضحيات (معتقلات وسجون وتعذيب) ففي الحقيقة فان العمل السلمي تزيد مخاطره علي المناضلين من المخاطر التي تواجه حملة السلاح.
  ومثل مسلماتها فإن للنخب رهانات ساذجة وخاسرة .. فأغلبها يراهن علي ما يسمي بالاسرة الدولية والمجتمع الدولي و دوره في اسقاط حكومة البشير ينتظرون مجلس الامن و ينتظرون المحكمة الجنائية الدولية ان تأتي و تلقي القبض علي البشير فيخلو لتلك النخب الجو وتختلي بالسلطة والشعب .. هي تعول علي الخارج اكثر من تعويلها علي الداخل.
  وكذا فان رهان النخب علي الحركات المسلحة لتنجز التغيير (الجبهة الثورية) هو رهان خائب تماماً، فالعمل العسكري الذي لا ينجز اهدافه سريعا يتحول مع مرور الوقت من نقطة ضعف الي نقطة قوة يستفيد منها النظام الحاكم وهذا ما هو حادث بالضبط حالياً.
   كما ان كل النخب بلا استثناء تعول علي الرموز القديمة والاحزاب العتيقة .. كلهم ينظرون الي الصادق المهدي كلما حزبهم امر، ويبحثون عن الترابي وعن نقد  (غفر الله لهما) وعن الميرغني، وينظرون تلقاء (ود نوباوي) او المركز العام بنمرة 2.. ومالم تعيد النخب النظر في رهانتها تلك ستستمر ويستمر الوطن في الخسران.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تفكيك خطاب الحرب و (فلسفة البلابسة)

   الخطاب و الموقف السياسي المساند للحرب و الحسم العسكري و رفض التفاوض و رفض أي حديث عن تسوية سياسية سلمية يعتمد علي استقطاب و تحشيد العوام ممن لا خبرة و لا معرفة لهم بطبيعة الحرب ولا السياسة!    تحشيد العوام هذا خلق تيار جارف اخذ في طريقه حتي بعض "الانتلجنسيا" ممن لا قدرة لهم علي مواجهة العوام او ممن يظنون ان كل هذا الحشد لا يمكن الا ان يكون علي حق، فيحتفظ برأيه لنفسه او حتي يتخلي عنه و ينخرط مع التيار ..!!   في المقام الاول ان لخطاب العنف و التحريض و "الانتقام" جاذبيته؛ و ان للقوة و استعراضها سطوة، مثلما ان لصورة الضحية فعلها؛ اما اذا دمج خطاب الضحايا مع خطاب القدرة علي الانتقام فاننا نحصل علي سيناريو تقليدي للافلام "البوليودية" و كثيرون هنا تفتق وعيهم و انفتح ادراكهم علي افلام الهند! فما يحدث و ما يدعو اليه خطاب الحرب بالنسبة لهؤلاء مفهوم و مستوعب و في مدي تصورهم لذا يرونه ليس واقعياً فحسب بل و بطولي و مغري يستحق ان ينخرطوا فيه بكلياتهم. سؤال الطلقة الأولي: قبل ان يعرف الناس الحقيقة بشأن ما قاد الي هذه الحرب التي انتشرت في مدن السودان و ولاياته ان...

لماذا يفضل الملكيون العرب التعامل مع جمهوريي اميركا؟؟

  لا يخفي الملوك و الامراء العرب "و اعوانهم" ميلهم و تفضيلهم التعامل مع ادارات جمهورية في اميركا و لا يخفون تبرمهم من تنصيب رئيس من الحزب الديمقراطي.. و يبررون ذلك الميل و التفضيل بمبررات مختلفة مثل تعامل الجمهوريين الحاسم مع ايران !! في الواقع فإن اكثر رؤساء اميركان الذين شكلوا اكبر تهديد للعرب و المسلمين هم من الجمهوريين (بوش الأب و الإبن و ترامب - غزو العراق و افغانستان و دعم اسرائيل)! لكن الجمهوريين كما عرب النفط يفهمون لغة المال جيداً و الادارة الجمهورية تضم علي الدوام اشخاص من قطاع الطاقة و النفط او صناعة السلاح او الادوية او حتي صناعة الترفيه "هوليود" يفضلون لغة النقود و المصالح. اذاً اكبر تهديد واجهه العرب و المسلمون من ادارات اميركية كان في فترات حكم جمهوري.. و بعد الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م اعلن بوش الابن سياسة صارمة في مواجهة انظمة اسلامية و عربية (افغانستان و العراق و السودان) كما مارس ضغوط غير مسبوقة علي السعودية اسفر عنها اجراءات حازمة ضد الجماعات المتشددة من الأخيرة، و تغيير في مناهج التعليم المدرسي و الجامعي فيها! الجمهوري ترامب اقدم علي خطوات غير مس...

شرح قانون الوجوه الغريبة !!

  المقصود بقانون الوجوه الغريبة هو اوامر الطوارئ التي صدرت في بعض الولايات بعد اندلاع حرب ١٥ ابريل/الكرامة و خصوصاً بولايتي الجزيرة و نهر النيل.. و هي اما اوامر صدرت من الوالي شفاهة و علي رؤوس الاشهاد او مكتوبة و مفادها ملاحقة ما يعرف ب "المندسين" و الطابور الخامس و من يشتبه في انتماءهم او تخابرهم مع مليشيا الدعم السريع، حيث راج ان المليشيا تدفع بعناصر من استخباراتها و قناصيها الي المناطق التي تنوي احتلالها لتقوم تلك العناصر بالعمل من الداخل بما يسهل مهمة الاحتلال .. و تستهدف الملاحقات الباعة الجائلين و اصحاب المهن الهامشية، و أي شخص تشك فيه السلطات او المواطنين؛ و في اجواء من الارتياب بالغرباء غذتها دعاية الحرب تم الطلب من المواطنين التعاون بالتبليغ و حتي بالقبض و المطاردة علي من يرتابون فيه. قانون او تعاليمات (الوجوه الغريبة) اسفرت عن ممارسات متحيزة "ضد غرباء" تحديداً ينحدرون من اقاليم كردفان و دارفور في ولايات عدة (الجزيرة، و نهر النيل، و كسلا، و الشمالية)؛ فالوجوه الغريبة هي اوامر تأخذ الناس بالسحنة و الملامح؛ و هي ممارسات بالتالي اسوأ مما كانت تمارسه "مح...