من
حقائق التاريخ أن التيار السياسي (العلماني) في السودان ، وفي البلدان العربية
والإسلامية وبلدان العالم الثالث عموماً هو الرائد في التصدي للقضايا الوطنية
والسياسية وهو من تشكلت على يديه الدولة الحديثة في كل تلك الاقطار بعد ان اسهم
بقدر وافر في انتزاع تلك البلدان وشعوبها لحرياتها واستغلالها ، علاوة على ذلك فإن
التيار العلماني بقيادة كمال اتاتورك هو الذي وضع حدا لهيمنة الدولة العثمانية /
التركية ولبطشها بشعوب المنطقة الإسلامية ( لا نزال في السودان نذكر جور التركية )
وبالاتراك انفسهم ووضع حد للإنحلال الداخلي للدولة التركية ( فلم تعد الآن هي رجل
أوربا المريض) .
لكن
عندما بدأ التيار الديني الجديد في الظهور ( الإسلاميون) متزامناً مع بدايات الحرب
الباردة وحظي بدعم ورعاية الدول الغربية باعتباره ترياقا للخطر الشيوعي ، بدأ
عندها التيار العلماني يتراجع بسبب ان الحركات الإسلامية داست في طريقها ( أول ما
داست) المبادئ العلمانية وبسبب أن التيار الديني القديم ( الطائفية والاحزاب
التقليدية) في السودان ، وفي غيره من الدول المشار إليها ( والتي استعان بها التيار
العلماني في إنجاز الاستقلال ) لم يقطع برأي واضح وديدنه إلا يقطع برأي في آية
قضية مصيرية / حول علاقة الدين والدولة بل مال في معظم الاحيان إلى مهادنة ومسايرة
ودعم الحركات الإسلامية .
وفي
الوقت الراهن الذي يشهد فشل مشروع الحركات الإسلامية ويشهد أيضاً نشاطاً ملحوظاً
للقوى والاحزاب العلمانية . بدأ التيار الديني القديم يطرح بدائل على مستوى
المصطلح ( العلمانية) اسماها الدولة المدنية حينا ودولة المواطنة حيناً آخر .
صحيح
أن هذه البدائل وخصوصاًَ المواطنة يمكن أن تكون مرادفة للعلمانية إلا أن الاصرار
على مفردة علمانية هو موقف لاعودة عنه أو هكذا ينبغي أن يكون ، ليس حباً للكلمة
وإنما :-
1-
بسبب أن القوى التقليدية
عودتنا على التلاعب بالكلمات ثم التنصل من مدلولاتها ومن ثم تحويل موقفها ومسايرة
الوضع السائد ، يدعم ذلك ان الحركات الإسلامية نفسها تطرح منذ أمد مفهوم دولة المواطنة
بعد أن افرغته تماماَ من مضمونه ليصبح مجرد عبارة جوفاء .
2-
وبسبب ان مفردة ديمقراطية
نفسها كانت مرفوضة من قبل التيار الديني الجديد ( الذي يزايد دائماًَ على موقف
التقليديين لإحراجهم لذا يتحسبون له ويتواطؤا معه) واعتبرها منتوجاً مستورداً من
منظومة فكرية فاسدة وكافرة ، بينما تتباري حالياً كل الحركات الدينية في الانتساب
إلى المفهوم الديمقراطي باستلابه ومحاولة تفصيله على مقاسها .. مع ملاحظة أن مفردة
ديمقراطية نفسها لم تتم ابدأ ترجمتها أو غرسها في المنظومة اللغوية العربية ولا
تزال كلمة غريبة ( لايتينة) في حين أن مفردة علمانية ومقابله في اللغة الانجليزية (secular)
فقد تم دمجها في نظامنا اللغوى .
3-
إن هواجس البعض حيال هذه
الكلمة ليست مفهومة ولا مبررة لذا من غير المقبول أن تستبدل وهي ذات محمول واضح
الدلالات تراكم لها بطول الممارسة الفعلية وطول البحث والنقاش عنها وحولها داخل
السودان وخارجه ، أن تستبدل بعبارات أخرى لم يتم اختيارها فعلياً وليس لها أي
محمول دلالي واضح .
*العلاقة
بين السكيولارية والديمقراطية :
إضافة لما أوردنا من أسباب فإن العلاقة بين
العلمانية والديمقراطية هي علاقة طردية قائمة على تبعية الديمقراطية للعلمانية ،
ولا يصح العكس لأن العلمانية هي الاساس الوحيد للديمقراطية لاحظ مثلاًَ :
·
كل الدول الديمقراطية هي
دول علمانية بالأساس .
· ليست
كل الدول العلمانية دول ديمقراطية . فثمة ديكتاتوريات عديدة تبنت العلمانية (
الاتحاد السوفيتي السابق وتركيا) وعموماً الانتقال من قاعدة العلمانية إلى
الديمقراطية ليست أمراً مستحيلاً أو صعباً فقد تحولت جمهوريات الاتحاد السوفيتي
فرادي إلى الطريق الديمقراطي وأيضاً على بلدان المعسكر الشيوعي كما سلكت تركيبا
نهج الاصلاحات الديمقراطية وللمفارقة على إيدى الإسلاميين وسبب هذا ( الانتقال
السلس ) هو أن الشعوب التى خبرت العلمانية لديها استعداد أكبر للتحول الديمقراطي
بعكس الدول الدينية .
· ليس
ثمة دولة دينية ( أو غير علمانية) تنتهج الممارسة الديمقراطية قد يستشهد احدهم بـ(
إيران) على إنها نموذج ديني ديمقراطي لكونها تنتخب رئيسها وبرلمانها إلخ .. ،
وردنا هو أن الديمقراطية ليست مجرد أصوات وصناديق مفتوحة وفرص متساوية بلا خطوط من
أي لون ، وهذا مبحث آخر ، لكن يكفينا هنا أن نشير إلى ان الرئيس والبرلمان
(المنتخبين) رفعا رايات الاصلاح إلى وقت قريب وهو ليس اصلاحاً ديمقراطياً وحسب
وانما باتجاه المبادئ العلمانية والدعوى إلى تقليص نفوذ المتشددين من الآيات
والملالي الذين يسيطرون على أهم الاجهزة التي لا تصل إليها آلية الانتخاب
الايرانية ك( مجلس تشخيص مصلحة النظام) و( مجلس صيانة الدستور) ومنصب المرشد فلا
تزال ايران بحاجة إلى اصلاح يحقق مزيداً من الحريات للشعب وإلى انتقال باتجاه الديمقراطية
الحقيقية لا تلك التي تقوم على اساس مذهب (ديني) .
*لماذا علمانية
:
بأتت
العلمانية (secularism) مطروحة بقوة أكبر وتجد قبولاًَ أكثر في هذه
الأونة لا لمجرد أنها توفر ضماناً فيما يتعلق بمراعاة حقوق الاقليات غير المسلمة
في السودان وليس لانها تراعي ظروف المواطنين الجنوبيين والاقاليم الجنوبية
المتوترة إلى درجة الانفصال ، وأنما بسبب كونها الضمان الوحيد لمصالح كل
السودانيين . والضمان لتطور ونهضة السودان سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً
وحتى روحياً .
فالعلمانية
هي الاساس الاصلح والأمثل لإدارة الدول وحكم الشعوب ولافرق في ذلك بين دولة شرقية
أو غربية ( كما يزعم الإسلاميون) ولا بين دول فيها أغلبيات مطلقة من اتباع دين
معين وأخرى تتعدد فيها الاديان ، كما لاعلاقة لذلك بتعدد الاعراق في الدولة
الواحدة ، فلا علاقة للعلمانية بكل ذلك ، وحتى لو كان كل مواطني دولة من الدول هم
من اتباع دين واحد تظل العلمانية هي الاسلوب الامثل لحكم أولئك الناس طالما أنهم
رغبوا في العيش في كنف دولة حديثة ، وهذا هو مناط البحث وبيت القصيد ، فالعلمانية
هي أحد الركائز الأساسية لفكرة الدولة الحديثة التي تقوم على فلسفة توزيع وتكامل
الأدوار بحيث يكون لأجهزة الحكم أهداف معينة تسعى إلى تحقيقها ولا علاقة لتلك
الاهداف بالدين وخلافه ، وأهداف الدولة الحديثة يمكن اختصارها في توفير الأمن وقدر
من الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية للبشر (المواطنين الذين تقضي حقوقهم ومصالحهم
وتشارك رقعة معينة من الارض) ، وتتجنب الدولة الخوض في المسائل الخلافية ( فاتباع
الدين الواحد يختلفون إلى فرق وجماعات وطوائف بل اتباع الطائفة الواحدة ينقسمون
إلى مذاهب شتى ناهيك عن اتباع أكثر من دين ... لذا تترك أجهزة الدولة تلك المسائل
الخلافية للمجتمع ليقرر فيها بنفسه عن طريق منظمات المجتمع المدني التي يختارها
وتشرف الدولة على أنشطة تلك المنظمات ( مجرد اشراف ) بحيث تضمن سيادة واحترام
القانون والالتزام في تلك الانشطة بالحقوق الإنسانية الدستورية وتضمن عدم اضرار
تلك الممارسات بحقوق وحريات أي مواطن .
ان
الحجة الاثيرة لدى مناهضي العلمانية في السودان ( من اسلاميين وتقليديين هي أن هذا
المبدأ أو الفكرة ( العلمانية) نشأت لتلبية حاجة مجتمع معين في وقت معين / في
إشارة للمجتمعات الاوربية في القرون الوسطي / وأن هذه الحاجة لم تنشأ في السودان
أو أي من الدول الإسلامية بعد ولن تنشأ فيها بسبب اختلاف الديانة الإسلامية عن
المسيحية .. الخ . وردنا على ذلك هو أن هذه الحجة هي كذبة كبرى وفرية واضحة فـ :
أولاً
: إضافة إلى كل ما سقناه من أن العلمانية اضحت الأسلوب الامثل والاساس الاصلح
للحكم في السودان وفي غيره لكونها تكفل الحقوق والحريات بتساوى تام بين جميع
المواطنين بغض النظر عن كونهم اقلية دينية أو عرقية ، فإنها ولذلك فقط صارت مبدأ
عالمي وعلمي مجرد لا علاقة لذلك بأين نشأت العلمانية ولا متى وكيف ؟ بل بكونها
تمهد الطريق أمام الانتقال الديمقراطي الذي يمثل طريق النهضة العامة والتقدم
الشامل .
ثانياً
: في السودان وغيره لقى رجال كثر ونساء مصارعهم نتيجة لافكار اعتنقوها وعبروا عنها
او افعال اتوها ولم يضار منها احد وحكم عليهم فقهاء الدولة بالحرمان من الحياة على
رأس هؤلاء المفكر محمود محمد طه ولاتزال فتاوي التكفير وهدر الدماء تتطاير هنا
وهناك .
ثالثاً
: صادر فقهاء الدولة في السودان وفي كل الدول العربية والإسلامية أبسط الحريات
المكفولة لأي مواطن يعيش على ظهر هذه الرقعة من الكوكب واحتكروا حق التفكير
والتعبير ومارسوا وصاية على العلماء والمثقفين والادباء والفنانين عبر أجهزة
الرقابة ( الدينية) المتمثلة في الفتاوي ومجالسها وعبر أجهزة الحكم أيضاً، و امتدت
أيديهم إلى حريات البحث العلمي حتى أصبح علماء الدين في العالم الإسلامي هم وحدهم
العلماء وأخذوا يبيحون ويحرمون لـ / وعلى/ الأطباء والتربويين وعلماء الاقتصاد
والقانون ، واختصاصي الفيزياء والكيمياء والاحياء وعلماء النفس والاجتماع ورجال
المال والاعمال والصناع افعالهم ويتدخلون في كل كبيرة وصغيرة من اختصاص هؤلاء وليس
في وسع أي عالم أو مخترع أن يقدم نظرية أو ابتكار إلا بعد أن يحصل على فتوى
بمشروعية فكرته أو نظريته وحتى المفكرين طفقوا يبحثون عن مشروعية لافكارهم عند
علماء الدين ..
وهناك ملاحظة وثيقة بما سبق وبموضوع هذا المقال
هي لجوء بعض من طرحوا العلمانية كمخرج من حالة الازمة والتخلف الراهنة إلى السند
الشرعي ( أنتم ادري بشؤون دنياكم) ، فهذا يدل على المدى الذي بلغه نفوذ رجال الدين
وسلطتهم ، فالعلمانية ليست بحاجة إلى السند الشرعي ولا يمكن أن يتم دعمها من منطلقات
دينية لأن ذلك يتعارض مع منطقها في التعاطي مع الاشياء .
بل
أن ما يدعمها هو ان التجربة (فقط ) هي التي أثبتت انها هي الاساس الأمتن لإدارة
الحياة المعاصرة والدولة الحديثة .
ليس ذلك وحسب بل أن العلمانية هي نمط حياة جديد
يحرر الناس في معاشهم وحياتهم المادية والروحية من سيطرة علماء الدين الساعين إلى
احتكار السلطة الروحية ومن هيمنة الدولة القابضة ومن سيف الفتاوي المسلط على
رقابهم ( وهي فتاوى مدفوعة الاجر غالباً) ذلك لان العلمانية تفصل بين المسائل
الدينية ومسائل الإدارة والحكم فتحيل الأولى إلى مؤسسات المجتمع المدني وهو الاقدر
على رعاية الحياة الروحية للمواطنين واثرائها ويحيل الثانية لأجهزة الدولة في اطار
المفهوم العام للدولة الحديثة وفلسفتها الاساسية وهي الاهتمام بأساسيات حاجة
الانسان من أمن وخدمات تعليم وصحة وما يستتبع ذلك من انساق سياسية وادارية
وقانونية بحيث يتساوي فيها الجميع دون حاجة لتقسيم او تفريق علي اساس دين واو عرق
او لون او لسان او جنس ...الخ*نشر هذا المقال بصحيفة الخرطوم بتاريخ 21 سبتمبر 2005م.
تعليقات
إرسال تعليق