يمكن
الركون بإطمئنان إلى أن غياب الحوار وعدم الإهتمام بمخاوف واهتمامات ووجهة نظر
الآخر هو السبب الأول الذي قاد إلى تضعضع دولة الإسلاميين ، وقد كشف اختلاف
الإسلاميين وسقوط مشروعهم الحضاري آثر ذلك عن أن الحوار لم يكن الفضيلة الغائبة بين
الإسلاميين وخصومهم فحسب بل بينهم بعضهم البعض أيضاً، وبرغم محاولات بعض رموز (
الانتلجنسيا) الإسلامية ( أمين حسن عمر وبابكر حنين وحسين خوجلي وحسن مكي وأنضم
إليهم مؤخراً الرجل المتنفذ جداً سابقاً غازي صلاح الدين) فبرغم محاولات هؤلاء
الحثيثة من أجل تجذير ثقافة التحاور وأدبها في أوساط الإسلاميين إلا أنها كانت
محاولات معزولة.. ( و يلاحظ أن جميع من أشرنا إليهم من خارج المؤسسة الرسمية عدا
أمين حسن عمر ) وأقرب ما تكون إلى سماع الصدي أو ( حوار الطرشان) في أغلب الأحيان
..
السبب وراء ذلك يكمن بالأساس في غياب الشفافية والى أجواء التعبئة السياسية
والفكرية التي اخضعت لها اجهزة الإعلام ( وهي اجهزة الحوار الاساسية في تلك
المرحلة) .
إن
تحرينا الصدق والعلمية فإن غياب لغة الحوار لا يتحمل الإسلاميون بمفردهم مسؤوليته
، فسياسياً كان للقمع واسكات الأصوات نصيب الأسد من سنوات ممارستنا السياسية (38
عاماً) بينما ساد الحوار والنقاش الجاد حيناً والمتعصب أحياناً حوالي (12 عاماً
فقط) من مجمل سنوات الحكم الديمقراطي .
وإجتماعياً
يقع السودان ضمن كتلة المجتمع الأبوي " العالم العربي والأفريقي " الذي
تكون السلطة فيه وعلى كل المستويات .. من الأسرة حتى الدولة لفرد واحد، وينحصر الحوار في نطاق ضيق جداً لذا
نجد غياباً تاماً لأدب التفاهم وفن التحاور وثقافة التعايش التفاعلي في الأوساط
النخبوية والشعبية لانعدام الحوار في الحيز الاجتماعي وضعف بل وانعدام أي اهتمام
بغرسه في المناهج التربوية أو غيرها من الادوات .
إن
الحوار مع الإسلاميين لايزال من أهم الأجندة بل وتزيد أهميته في هذه المرحلة
لسببين هما : أن هناك مجالاً لحوار جاد ومفتوح بعد رفع القوانين الاستئنائية
وايقاف عمليات الاعتقال السياسي واتاحة الحريات والانفتاح التي تشهدها أجهزة إعلام
الدولة على وجهات النظر الآخري بالإضافة إلى مساحات الحرية التي انتزعتها الصحف
المستقلة والخاصة .
إن
الإسلاميين لايزالون يمسكون بأهم المفاصل في أجهزة الحكومة كما لهم نصيب 52% من
تلك الأجهزة خلال المرحلة المقبلة إذن فلتسمح لنا النخب الإسلامية بأن نجلس معها
في حوار وطني جاد بسقوف مفتوحة على سموات الفكر وبلا تشنجات أو عصبية وهي أهل لذلك
وإلا فان وصف نخبة سيكون في غير محله، وفي ما يخص اجندة الحوار نقدم مقترح بأن
تكون كما سترد في هذا المقال والذي سنطرح فيه أجندة الحوار و سنطرح فيه أيضاً جملة
من الاراء والتعليقات حول تلك الأجندة لتكون مدخلاًَ للمناقشات التي تهدف في
النهاية إلى خلق مقاربات بين وجهات النظر وبين الأرضيات المختلفة التي نقف عليها ،
فالقضايا المطروحة لأمن وإستقرار ورفاهية شعب هذا البلد معلومة وطرق الوصول إليها
معلومة والأمر لم يعد يحتمل الترف الفكري ( ترف المدرسة الإسلامية التي تهوم
بعيداً في السماوات ولا تمس الواقع ) ولا يحتمل نزق غيرها من المدارس التي تشترك
معها في كونها جميعاً تتجاهل قضايا التنمية وتحسين مستوى المعيشة ، بينما تهتم
بتحقيق انجازات على جبهة الايدولوجيا وهي بالطبع انجازات لاتغني ولاتسمن .
*اطروحات
الإسلاميين بين التأصيل والتجديد :
إحدي
أهم المسائل الفكرية التي واجهت الإسلاميين ( دعاة الدولة الإسلامية والإسلام
السياسي ) هي هل الجواب ان يتم تأصيل الحياة المعاصرة ، أم أن تتم عصرنة النص
والتراث الإسلامي بمحموله الإخلاقي ليوائم متطلبات الزمن ؟ ويصيغ أخرى هي مسألة
التأصيل والتجديد .. العصر والأصل ... الخ.
لقد
استجاب الإسلاميون وغيرهم من الساسة المسلمين المعتدلين لتحدي الإجابة على هذا
السؤال دون إعمال الذهن وإثارة الشك حوله ، هل هذا هو وقت طرح هكذا تساؤل ؟ وهل
ستكون الإجابة عن هذا السؤال مفيدة للمشروع السياسي والفكري الإسلامي .؟؟! .
سبب
عدم طرح مثل هذه التساؤلات وأثارة تلك الشكوك مفهوم فتاريخ الفكر الاسلامي يحفل
بعظات مفادها ان كل من اثار شكاً حول امر من الامور التي تشغل الناس تصدى له
الفقهاء وتربصوا به بل واغروا به السلطان حتى يدق عنقه ، فمجاراة التيار السائد
وكراهية بل ومحاربة النقد هي من أهم آفات الفكر الإسلامي على مر العصور !!! .
قاد
الانسياق وراء وهم الإجابة على سؤال
التأصيل والتجديد إلى عدة مواقف ، إنتهي بها الأمر في الختام لأن تسيطر مدرستان
على ساحة الفكر والسياسة في العالم الإسلامي هما :
مدرسة
السلفيين وهؤلاء يرون أنه لابد من اخضاع المعاصر لذات شروط ومعايير الماضي وحجتهم
أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها " وعلى رأس هذه المدرسة في
الوقت الراهن اسامه بن لادن طالبان . ..
مدرسة
المجددين ، ويرون أن تتم إعادة المعاصر واحتكامه للاصل حيثما أمكن ذلك فإن استعصي
يتم تحريك الاصل وزحزحته قليلاً باتجاه العصر .. وكان الدكتور الترابي هو المرشح
لتزعم هذه المدرسة لكن تجربته الفطيرة في حكم السودان أدت إلى هبوط اسهمه وتعكس
هذه المدرسة أو تعبر عن وجهة نظر الإسلاميين عموماً والأخوان المسلمين على وجه
الخصوص ..وحيث أن لهذه المدرسة ينتمي
اسلاميو السودان كان لابد من وقفة عندها، فاولاً نلاحظ تسمية هذه المدرسة بـ
" المجددين " هي تسمية خاطئة ومضللة فالتجديد عند هذه المدرسة ليس
اولوية ولا قضية سياسية بل هو معالجة عند استحالة التأصيل فقط ، ومن ثم فإن
التجديد لن يكون معنياً أو مقصوداً لذاته " وهو ما ينبغي أن يكون لان التغيير
والتطور هو سنة الحياة " بل يأتي بقيود من الماضي لا صلة لها بالواقع المعاصر
الحديث .
ولو
أن مدارس الفكر الإسلامي قبل الفصل في مسألة " تأصيل العصر أو عصرنة الأصل
" لو أنها انتبهت إلى ان الأصل الذي تقيس عليه وتتخذه معياراً ومرجعية ونظرت
إليه بعين فاحصة ناقدة لوجدت إضافة " إلى عصور الانقطاع الفكري بسبب عصر
الانحطاط " لوجدت أيضاً أن عصر الثراء الفكري مليء بالثغرات والفجوات السوداء
، وأعني هنا المسائل السياسية التي هرب السلف من الإجابة عليها كالصراع على السلطة
وما جرت تسميته لاحقاً بـ( الفتنة) وطاعة ولى الامر وعزله والقضايا الفكرية كأصل
اللغة واصل القرآن وغيرها من القضايا التي توارت بل وتوارت معها مدارس كاملة وعلوم
قائمة بذاتها ( علم الكلام ) واضحت جزءاً من المسكوت عنه في الفكر والفكر السياسي
والاسلامي .
كان
يتعين على الإسلاميين قبل التساؤل عن الأصل والراهن أن يعملوا على تلافي عيوب حالة
الانقطاع الفكري بأن يولوا مسألة الزمن قدراً أكبر من الاهتمام فطية عقود عديدة
تغيرت وتطورت في البلدان الإسلامية كل الاشياء والاوضاع ولم يصحب ذلك تطور فكري أو
ثقافي بل حالة من الجمود والركود مما يحتم احداث هزات قوية في المنظومة الفكرية
ونقلات كبيرة جداً حتى يصبح الفكر الإسلامي في مركز يمكنه من الاحاطة بمسائل
ومشاكل المجتمعات الراهنة كذلك كان لابد من إعادة فتح كل الملفات المسكوت عنها
وعلى رأسها ملف حرية التفكير والتعبير وإعادة الاعتبار لكل مفكر اسلامي لقي حتفه بسبب
موقفه الفكري أو رأيه . وهذا يتطلب النضال من اجل انتزاع هذه الحقوق والحريات
والتي سيكون من المستحيل عند انعدامها تحقيق أي تقدم فكري او فلسفي والذي بدوره هو
اساس أي تقدم عام ونهضة شاملة وستكون ساحة الفكر والحوار عند غياب الحرية بساحة
للمخاتلة والمراء والنفاق يرتادها اصحاب الغرض الخاص ويتحاشاها المفكرون الجادون .
*الإسلاميون
والسياسة : البدايات :
بدأ
الظهور الملحوظ للاسلاميين في السودان وفي غيره عقب مرحلة التحرر من الاستعمار حيث
بدأوا يؤسسون جمعيات تمثل تضامن المسلمين " الاخوان كنموذج" ومع كونها
كانت تهتم بالشان السياسي كمعارضة دائمة للاوضاع السائدة المنحلة والبعيدة عن قيم
الدين ، إلا أن اهدافها كانت تتمثل في نشر التدين والوعي الديني واصباغ حياة الناس
بطابع ديني " إسلامي " وابراز كافة مظاهر التعبد والقيم الدينية وكانت
تركز على الشكليات كثيراً مثل " لباس المرأة ، لحية الرجل .. إلخ " .
وكان
من الطبيعي أن يولوا التربية اهتماماًَ كبيراً لتحقيق تلك الأهداف المعلنة الرامية
إلى أحداث تغيير اجتماعي لجهة الوصول إلى مجتمع متدين وفرد ناسك .. لذا فان
الأنشطة التي تركز عليها هذه الجماعات هي
إقامة الشعائر الدينية صلوات جماعية ، صوم التطوع ، تلاوة جماعية ... الخ .
ويلاحظ
أن لا هذه الأهداف ولا انشطة والاساليب المتبعة لتحقيقها يمكن أن تكون من أهداف
وانشطة وأساليب ومهام الحزب السياسي بحال من الأحوال وإنما من مهام واولويات
منظمات المجتمع المدني الأخرى ، أي تلك التي لا تهدف لتحقيق كسب سياسي من منظمات
وجمعيات طوعية وهيئات دينية وطوائف مذهبية وخلافه من المؤسسات الدينية والأهلية .
وإلى
هذا الخلط بين مهام الحزب السياسي ومهام غيره من التنظيمات يمكن نسبة جزء كبير من
الفشل الذي تعيشه الحركة الإسلامية السودانية حالياً ، لأنه قاد إلى سوء فهم وخلط
بين الأدوار والأهداف مما قاد إلى تبديد جهود الحركة وعناصرها وحكومتها .
ترتب
على ذلك الوضع فشل الإسلاميين في التعاطي مع المسائل التي تولوا طرحها بأنفسهم
لأنهم هجموا عليها دون تروٍ ودراسة وإنما مجرد اطروحات فطيرة مسنودة بعاطفة دينية
قوية وتعتمد على إحراج الخصوم والمتشككين في صحة أو جدوى ذلك الطرح ، لذا فقد مثلت
تلك الاطروحات بداية الانحراف والفشل في مسيرة حركة الإسلاميين ومسيرة الدولة
السودانية نفسها ، فمن المسائل التي تولوا طرحها بلا ترو قضية الدستور الإسلامي في
ستينات القرن الماضي ثم بعد المصالحة الوطنية مع نظام مايو قضية الاقتصاد الإسلامي
، البنوك الإسلامية ، شركات التأمين الإسلامية ، وأخيراً أسلمة مناهج التعليم
والمعرفة في عهد الإنقاذ ...
*الدين
والدولة في الدستور الإسلامي !!
إن
قضية الدستور " الإسلامي " أعقد من أن يتم طرحها على مستوى الخطب السياسية
والمناظرات والندوات التي تهدف إلى احراز كسب سياسي لا التأكد من فعالية وجاهزية
الطرح النظري ، بل كان من الواجب اخضاعها للجدل العلمي والفكري المفتوح بلا سقوفات
أو ارهاب فكري ، فالأمر يستدعي عقد مقاربات بين مفاهيم كالدولة الحديثة ، والدولة
القومية ، والدولة متعددة الاثنيات ، ثم بعد ذلك محاولة تطوير مفهوم للدولة
المعاصرة الإسلامية عبر دراسة التلويح بنصوص عزلت عن سياقاتها المنطقية كما يفعل
الإسلاميون عادة .
وأيضاً
فيما يخص علاقة الدين والدولة تحديداً مسألة تحكيم الشريعة الإسلامية وقع
الإسلاميون في اخطاء فادحة أبرزها أنهم استغلوا حالات الضعف والحاجة إلى موازنات
تلك الحالات التي اعترت الحكومات الدكتاورية العسكرية ( مايو1969 ، يونيو 1989)
لتمرير رؤيتهم للقوانين الإسلامية حتى اضحت تلك القوانين مرتبطة بالقمع ومصادرة
الحريات لارتباطها بتلك الأنظمة الشمولية القمعية فشريعة ستبتمبر 1983م و1991م لم
يتم اخضاعها لنقاش عام أو عرضها على المفكرين والساسة بل صاغها أثنان أو ثلاثة
" على أحسن الفروض " من الاسلاميين ثم فرضت على أنها حكم الله الذي لا
يجوز الجدل فيه ، واستغلت بعد لك لتثبيت دعائم حكم فردي " مايو" وحكم
شمولي "يونيو 89) .
*الحكومة
الإسلامية :-
أما
تجربة الحكم الإسلامي الخالص التي قدمها الإسلاميون في السودان " الانقاذ
" فهي تجربة يستحى المرء من نسبتها باي وصف للإسلام، فهي نظام حكم استهل عهده
بالخداع والعنف "انقلاب عسكري صادر الحريات وادعي قيام حكومة وطنية – تساوى
بين جميع السودانيين واعلن بانه سيدفع باتجاه ممارسة ديمقراطية راشدة " واتضح
لاحقاً أنه غير ذلك .
بينما
تمثلت تجربة الاقتصاد الإسلامي في انتشار الانشطة الاقتصادية غير المنتجة "
التجارة " و " الاقتصاد" الاستهلاكي وشيوع ظاهرة الثراء الفاحش بلا
مبرر أو سبب وتقديس الثراء في حد ذاته وشيوع الفساد المالي والاداري وظهور نمط من
الادارة الحكومية قائم على الجباية من المواطن الفقير للصرف على الانفاق الحكومي
المتضخم وهو إنفاق لا علاقة له بالتنمية بل إنفاق على مرتبات الموظفين وسيارات
ووقود وكهرباء ... الخ وبإنتشار الفقر في قطاعات واسعة جداً من المواطنين .
نتج
عن ذلك أن المجتمع المسلم الذي هدف الإسلاميون إلى إعادة صياغته أصبح عبارة عن
مجتمع يعاني آثار الفقر والتشرد وانعدام فرص العلاج والتعليم والعمل ويعاني كذلك
من ظواهر متناقضة كالعزوف عن الزواج بين الشبان الفقراء وتعدد الزوجات بين الأوساط
التي اثرت واستاثرت بالمال .
وتمثل
حالات الركود الفكري والإبداعي " الفني والادبي والثقافي " ذلك الركود
الذي وصل درجة الانحطاط تمثل خير تلخيص لمجمل تجربة الإسلاميين في الحكم والسيطرة
السياسية والسيطرة على كافة مناحي الحياة التي قادت إلى افقار في كافة المناحي
المادية وبالمفارقة " الروحية أيضاً .
ولنا
عودة
----------------------
* نشر هذا المقال بتاريخ 10 سبتمبر 2005م بصحيفة الخرطوم.
----------------------
* نشر هذا المقال بتاريخ 10 سبتمبر 2005م بصحيفة الخرطوم.
تعليقات
إرسال تعليق