وفيما كان يراهن البعض علي فشل الحركة الشعبية في الحكم وفشل الجنوب كدولة
وانهيارها سريعاً، كان البعض يعول ويراهن علي صعودها "الحركة" كحركة
محررة لشعبها بعد ان تحقق اكبر اهدافها.. وبما انه يبقي صحيحاً ان الامور يحكم
عليها بخواتيمها لكن لا مناص من تتبع مسيرة الحركة الشعبية سياسياً منذ تشكلها في
1983م وحتي الأن، لأن الخاتمة هنا لاتزال مفتوحة علي كل الاحتمالات، وايضاً لأن
خيار التحرير لم يكن محدداً علي هذا النحو "الانفصال/أو الاستقلال" الا
في السنوات الاخيرة.
ومسيرة الحركة حافلة بالاحداث والمواقف مابين الايجابي والسلبي.. فالحركة
ساهمت بضلع لايستهان به في خلق حالة الحرب والقطيعة بين شمال
البلاد"القديمة" وجنوبها واشتركت في ارتكاب الفظائع والمآسي التي تضرر
منها جنوبيين بذات القدر الذي نال شماليين، لقد ارتكبت بحجة التخابر والتعامل مع
جيش الحكومة (جيش المندكورو/الجلابة) سلسلة من عمليات الاعدام خارج نطاق القضاء،
وهناك أسر ابيدت عن آخرها بهذه الحجة ولم يبقي من افرادها الا من عاش ليكون شاهداً
علي هذه المأساة.
وعلي عكس ما يفاخر به البعض ويروج له علي نطاق واسع من ان الحركة/ الجيش
الشعبي، كان يراعي قواعد معاهدة الأسري وسائر قواعد القانون الانساني واخلاق
المحاربين، فان تصفية الأسري كانت نهجا وسياسة رائجة خصوصاً في مواجهة مقاتلي قوات
الدفاع الشعبي وذلك بحجة انهم "جاءوا بحثا عن الشهادة"، مع العلم بأن
الأسير يبقي أسيراً ولا فرق في القانون بين مقاتل وآخر!، هذا بالاضافة لسوء معاملة
الاسري واعتقالهم في ظروف بالغة السوء؛ وكل من شاهد شريط معتقل (ياي) الذي يتحدث
فيه جون قرنق الي الاسري يلاحظ الحالة المأساوية التي عايشوها ويقف عليه، ولن يشفع
هنا مقارنة موقف الحركة مع موقف النظام، فخرق الالتزام القانوني او الاخلاقي لا
يبرره سلوك الطرف الاخر.
ثم
ان اختيار الحركة لطريق الكفاح المسلح لتغيير المسرح السياسي " لم يكن
استقلال الجنوب هدفاً معلناً حينها" تسبب في محاصرة كل بارقة أمل في تغيير
سياسي سوي وصحيح، لأن حالة الحرب ظلت تخيم علي المسرح السياسي لما يربو علي
العقدين وفي ظل الانظمة العسكرية أو المدنية في الخرطوم علي السواء، بل ودعمت وقوت
حظوظ وفرص العمليات الانقلابية والانظمة الديكتاتورية في السودان بما في ذلك حظوظ
حكم البشير الاسلامي الذي ناصبته العداء.
ثم
في وحتي بعد توقيع اتفاق نيفاشا والذي من المفترض ان يسهم في احداث اختراق لصالح
عملية تحول ديمقراطي في البلاد "شمالها وجنوبها" قامت الحركة/الجيش
الشعبي" بالتكريش لـ"شراكة" شمولية مع نظام المؤتمر الوطني خولت
للأخير ان ينفرد بحكم الشمال قمعياً بينما انفردت الحركة /الجيش الشعبي بحكم
الجنوب بذات الطريقة، لقد عارضت الحركة صراحةً وضمناً اي دعوة لإسقاط المؤتمر
الوطني بداعي انه الـ"شريك" الذي لابد من المحافظة عليه لإمضاء اتفاق
نيفاشا والوصول به الي غايته "الانفصال غير المفصح عنه والمخفي تحت غطاء جعل
الوحدة خيارا جاذبا" بل وتضامنت معه في احداث غزو الخرطوم من قبل قوات العدل
والمساواة سنة 2008م وهي ذات الحركة التي تحتويها وترعاها الان ومعها أخريات!!.
وفي
الختام تنكرت الحركة لمشروع السودان الجديد واكتفت بمشروع الدولة الوليدة في
الجنوب بحجة واهية وهي ان شريكها حال دون تحقيق الوحدة وهي محاولة بائنة الخواء
للتملص من المسئولية التاريخية في الاسهام في تقسيم السودان.
علي
كل حال يبقي المستقبل مفتوحاً امام الحركة الشعبية في تأسيس دولة ديمقراطية مستقرة
ومسالمة ومتعايشة مع جيرانها خاصةً الجار الشمالي، لكن هناك تحديات جسيمة ابرزها
بقاء الجيش الشعبي عصياً علي التنظيم (كجيش دولة نظامي) وبقاءه مرتبطاً بحزب سياسي
(الحركة) اذ لا يزال يؤدي دور الجناح العسكري!!
كذلك استمرار هيمنة الحركة الشعبية – بمبرر كونه الحزب الذي قاد مسيرة
الاستقلال والحرية- علي المسرح السياسي وامساكه بكامل مفاصل الدولة والمجتمع،
والتي ترجح وتقوي فرضية ان يصبح الحكم في جنوب السودان (كالشمال تماماً) علي نمط
الحزب الحاكم الاوحد مع وجود احزاب ضعيفة وديكورية، وهذا يفتح الباب علي مصراعيه
لنمط شمولي قمعي قابض.. ويقوي هذه الفرضية الاخبار التي تواترت من الجنوب والتي
تفيد بان الرئيس (سلفا كير) يعمل علي تقوية مركزه حتي علي حساب اقرب مساعديه
(نائبه الدكتور مشار) ما يعني اقتراب الجنوب من نموزج دولة الحزب الواحد وحزب
الرجل الواحد.
كما ان التمرد الذي اشعلته الحركة في مايو
1983م، تبقي شعلته متقدة وطريقه متاحة امام كل من يشعر بالظلم أو (التهميش)،
خصوصاً في غياب تجربة سياسية ديمقراطية وحكم راشد.. فكل من يحدث له ما لايرضاه او
ما لايعجبه ما عليه الا ان يمتشق بندقيته "الكلاشنكوف" ويلجأ للغابات
والتي لسوء الحظ تغطي اكثر من 90% من مساحة الجنوب وتمثل مليشيا ياو ياو وبيتر
قديت والجنرال أطور وغيرها علامات في هذا الطريق.
تعليقات
إرسال تعليق